تعرض شيعة العراق الى انقسامات عديدة، بفعل العوامل السياسية المتغيرة وعلى طول الفترة التي مر بها البلد، ويحدث هذا الامر مع كل حكومة جديدة تحكم العراق، يتمحور حديثنا حول الشيعة، لأنهم يشكلون الأكثرية من السكان، حيث تقدر نسبتهم بـ 70% من مجمل سكان العراق، فغالباً ما ينقسمون بين مؤيد للسلطة ومعارض لها ومحايد للحكومة، وآخر محايد أو بالأحرى مستقل لا لها ولا عليها.
وبطبيعة الحال تلك الانقسامات تكون إما من اجل المصالح، أو بسبب اختلافها مع الحاكم، أو من باب الحفاظ على ارواحهم والابتعاد عن المشاكل مع السلطة، فتكون الاهداف متقاطعة حسب اهميتها للمنقسمين.
لكن اليوم هناك انقسامات طوعية، لم تتأثر بالعوامل الخارجية أو الداخلية، ولم تكن للسطة أو الحاكم يد فيها، حيث اصبحت الانقسامات ذاتية، من اجل قضية واحدة ذات اهداف مشتركة، قضية توحدوا من اجلها, دعتهم الى ان يكونوا في محاور وتشكيلات حسب الحاجة الضرورية التي تقوم من اجلها تلك القضية، اتفقوا عليها بدون اتفاقات مسبقة، دفعت بهم للتوحد للسير بإتجاه هدف معين يرومون الوصول اليه جميعهم، بفعل غاية مشتركة تربطهم وتدفعهم لنيلها.
أربعون يوماً وهم منقسمين ومتجزئين في تشكيلات متنوعة في المهام ومتفقة في الغاية، كل حسب امكانياته وقدراته المتاحة أمامه، فتجدهم في اربعة اقسام:
القسم الأول: هم الزوار أو ما يطلق عليهم بـ “مشاية الحسين” السائرون صوب كربلاء المقدسة لتأدية زيارة الاربعين، وتقدر اعدادهم بـ بعشرات الملايين، فعندما تنظر اليهم من خلال صورة جوية، تراهم كمزنةً سوداء حجبت ضياء الشمس، أو كأسراب الطيور المهاجرة، التي تبحث عن المأوى الآمن، أو عن المكان الذي يؤمن لهم الغذاء والراحة.
القسم الثاني: وهم الذين يؤمنون الخدمات، أو ما يطلق عليهم بـ “خدمة زوار الحسين”، وهؤلاء هم من يوفر الطعام والشراب والراحة للزائر، فعندما تلتقي بهم او تكون قريب منهم يذهلونك بما يبذلون من جهود قل نظيرها، فعندما تسير ما بين طلوع الشمس وغروبها، يصيبك العجب، وتذهلك التصرفات، ويحتار فيك التفكير, عندما ترى طفلاً لم يبلغ الحلم وهو يتوسل اليك لتأخذ منه قطعة حلوى، أو حبة فاكهة، أو قنينة عصير، أو صحن مملوء بالرز المطبوخ صُب عليه شيء من الإدام تتوسطه قطعة من اللحم، ما إن تتعذره لتكمل مسيرك حتى تتفاجأ بآخر ماسكاً يدك ويهوى لتقبيلها من أجل أن تسمح له بغسل قدميك، فما إن تشكره حتى تصطدم بشيخ كبير غطى شيبته التراب المتطاير من اقدام السائرين، وهو يرجوك ان تأخذ من يده فنجان القهوة، فتقف خجلاً منه لتأخذ ما في يده، فقبل أن تغادره وانت شاكر له، حتى تتفاجأ بامرأة في سبعينيات العمر وهي تطلب منك ان تضيفها في موكبها المتواضع، لتسكب لك ما اعدته من حساء تفوح منه ازكى روائح الطعام اللذيذ، فيكون الخيار بين يديك، اما ان تحزنها وتغادر، أو تملأ وجهها فرحاً وابتهاجاً لتنزل في موكبها.
ولم ينته الامر عند هذا الحد من الكرم وحسن الضيافة، فما إن يبدأ قرص الشمس بالنزول في الافق حتى تشاهد السيارات بكل انواعها مصطفةً على قارعة الطريق، وترى مالكيها يتوسلون الزائرين ان يضيفوهم في بيوتهم، ليتشرفوا في خدمتهم, ويقدمون لهم العروض والإغراءات، وكأني بأحدهم يحدث نفراً منهم “زاير خلينا نتشرف بخدمتكم الليلة، حمام حار بادر، استقبال خارجي بكافة الخدمات، انترنت مفتوح، نغسل ملابسك، ناخذك للطبيب اذا مريض, صار سنة واني منتظرك، شرفنا بخدمتك الليلة”، هذا غيض من فيض مما يقدمه خدام الحسين.
اما القسم الثالث فهم الممولون لتلك المواكب من خلف الكواليس، بعيداً عن الانظار، يجلبون المواد العينية بأنواعها (طعام وشراب ودواء وفي الغالب ينفقون الاموال العينية، ويوفرون كل ما يحتاجه الخادم والزائر)، وهذا لا يعني إن اصحاب المواكب والخدام يعتمدون عليهم فقط وإنما هم من يتطوع من اجل هذا وينفقون اموالهم، لكن هؤلاء داعمين لهم، ولكي لا ننسى من لم يشارك في هذا الكرنفال العظيم، وهم المقاتلون في ساحات الوغى، الذين شغلهم الواجب المقدس عن هذه الخدمة والزيارة العظيمة، والبعض منهم يسهر الليل والنهار من اجل تأمين حمايتهم.
تصطك الاسنان, يتلعثم اللسان, وينحني القلم, ويجف مداده, خجلاً من ان يكتب عما نراه ويراه غيرنا، لما يفعله ويقدمه هؤلاء المتطوعون رغبةً منهم لأجل قضيتهم السامية التي اذهلت العالم بأسره، قضيتهم التي ارتبطت ارتباطاً كلياً مع الحسين عليه السلام، فخلدت مع خلوده الازلي، الكثير لا يعلم بماهية العلاقة والارتباط الروحي بين الشيعة والحسين، وبالخصوص شيعة العراق، الذين تحملوا ما تحملوا من اجل ديمومة القضية الحسينية، فمن يعيش تلك القصص ويستشعرها لا يشابه الذي يسمعها؟ فالعاشق يستشعر الحب بكل عواطفه ومشاعره ووجدانه، اما الذي يسمع عن العشق يتعاطف معه ولا يمكنه ان يدرك ذلك العشق الجنوني الذي اخترق الأذهان ليرسم اجمل لوحة فنية على قارعة طريق عشاق الحسين.
رضوان العسكري
المصدر: شفقنا