ليس فقط في الزيارة الأربعينية، بل في جميع الزيارات المليونية، وربما في جميع الزيارات المسنونة الى مرقد الامام الحسين، حيث يتسابق الزائرون للوصول الى كربلاء، نلاحظ ظهور مشهدين بشكل غريب؛ الاول: العطاء في كل شيء، فهنالك من يقدم الطعام والشراب، ومن يتكفل بنقل الزائرين مجاناً، ومن يتجشّم عناء السير على الأقدام، ومن يستضيف الزائرين في بيته، وأشكال تتجدد مع مرور الزمن، أما المشهد الثاني: فهو ظهور مشاعر سلبية منبعها الاوضاع المعيشية التي يعيشها البعض تثير مشاكل هي موجودة بالأصل وبشكل مزمن في أي مجتمع بالعالم، في مقدمتها؛ الفقر.
إنها مقولة تُثار منذ فترة طويلة من قبل البعض الذي يعتقد انه يطالب بتقويم الحالة لصالح الفقراء والمعوزين في المجتمع، بينما هي تسبب بالدرجة الأولى - ربما من حيث لا يشعرون - بضرب العلاقة التكاملية بين الدوافع المادية والدوافع المعنوية في سلوك وحركة الانسان بالحياة، فالمعروف ان الفقير يشعر بالغنى وهو ينفق للزائرين.
لذا لا يجب ان نستغرب تكرار الحديث الذي يستهدف أصحاب المواكب الخدمية والحسينية، بأن «الأموال تبذل بالملايين لإطعام الزائرين، بينما هنالك عوائل تعاني الجوع والفقر»! أو إن الطرق الرئيسية تغصّ بالمشاة على الأقدام، بينما البلد يعاني بالأساس أزمة الطرق الخارجية وفي داخل المدن.
بإزاء ذلك كله، يخاطب البعض هؤلاء الزائرين بأن "أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"!
فما المانع لو أنفقتم من بعض هذه الاموال الوفيرة لتمكين الفقراء من العيش في بيوت كريمة بدلاً من بيوت الصفيح، او تزويج العزاب او توفير نفقات التعليم او إنقاد حالات مرضية خطيرة...؟!
هذا الخطاب لا يصدر من أناس عاديين - على الأغلب - إنما ممن يعدون أنفسهم أصحاب رأي ومن حملة الفكر والثقافة، ويرون في انفسهم ما يمكن تسميته بـ «بيضة القبّان» بين المجتمع والدولة، لتحقيق العلاقة المتوازنة والعادلة بين الجهتين، بيد أنهم عندما يصلون الى الطريق الواصل بين هذا المجتمع والإمام الحسين، تتغير لديهم المعادلة، ويصبح هذا الطريق هو «بيضة القبّان» فينسون أنفسهم! ويلقون بالمسؤولية على الآخرين لأن يصلحوا ما أفسده الدهر، وهم لا يجهلون سبب ومنشأ الأزمات، من فقر وأزمة خدمات أو أزمة الكتب الدراسية والأمن وغيرها مما يجب أن تتحمل مسؤوليته الدولة، مع ذلك يطلبون كل ذلك من المواكب الحسينية، ربما لأنها المقصد الأسهل والأقل كلفة من غيرها! فاذا كانت مظاهر البذخ والإسراف من احتفال ضخم لأسرة معينة او جماعة او مكان ما، هل كان بإمكان أحد التجرؤ على المطالبة بأن توجه بعض الملايين المسفوحة على الارض بهدف الشهرة واللذة العابرة، الى من هم بحاجة الى لذة الطعام والشراب والملبس والمسكن الكريم؟
واذا بحثنا في الأسباب التي تدفع اصحاب هذه المشاعر إزاء زيارة الأربعين، يمكن الوصول الى حقيقتين من جملة حقائق:
الأولى: سوء الفهم لمشاعر الجمهور المتفاعل مع قضية الامام الحسين، عليه السلام، والإصرار على قراءة هذه القضية بما يتناسب مع عقليتهم، عادّين تجييش العواطف ومظاهر البكاء والتألم على مصاب الامام الحسين وأهل بيته، عقبة في طريق الفهم الذي يرونه صحيحاً، وهذا ما أدى الى حصول نوع من فتور العلاقة بين الجمهور وأهل الثقافة والفكر في مواسم الزيارة تحديداً، سواءً في الأربعين او قبله في أيام عاشوراء، وحتى سائر الزيارات المليونية.
الحقيقة الثانية: الشعور المخيف من استمرار حالة تجاوز الجماهير للشريحة المثقفة وما تبذله من جهد في التنظير والنقد، كما فعلت الجماهير من قبل، وبكل شجاعة؛ لشريحة الساسة بعد ثبوت فشلهم الذريع في إدارة شؤون الناس ورعاية مصالحهم.
ويعود منشأ هذا الشعور الى نفس هذه الشريحة التي طالما افترضت الجهل والأمية وحاجة الناس الى من يهديهم الى أفكارهم ونظرياتهم، التي من دونها - كما يتصورون - فانهم في ضلال مبين!
وبين «حوار الطرشان» والقراءات الخاطئة للمظاهر الاجتماعية، وبين الإيغال في الاستهانة بمشاعر وعقول الناس، كان القرار الأخير من الجمهور العريض بأن تتولى هي بنفسها بلورة الرؤية الثقافية بما يعزز هويتها وانتماءها، وهذا ما نلاحظه في مسيرة المشي في زيارة الأربعين، وقبلها في أيام عاشوراء.
*حسين محمد علي
المصدر: مجلة الهدى