صدر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت كتاب جديد بعنوان: «نشأة الفقه الإمامي ومدارسه» للقاضي الدكتور الشيخ جعفر المهاجر وهو قاضي شرف في المحكمة الجعفرية في بعلبك ومدير مركز بهاء الدين العاملي للأبحاث والدراسات التاريخية والاجتماعية وله العديد من المؤلفات حول التاريخ الشيعي والإمامي وجبل عامل.
وهذا الكتاب هو محاولة من المحاولات القليلة المعاصرة في تأريخ الفقه عامة والفقه الإمامي خاصة وقد بذل المؤلف في جمع مادته وتحليلها جهداً كبيراً وعمله لم يقتصر على الجمع والتوثيق، لأن المادة المتوفرة لم تكن طيّعة بالمقدار الكافي، ولذا استخدم وسائل عدة متنوعة لإعادة تركيب الصورة وتكميل المشهد.
وقد تحدث المؤلف في مقدمته عن الجهد الذي بذله لإنجاز الكتاب والصعوبات التي واجهها في جمع المادة وتحليلها وإعادة رسم المشهد الكامل لتطور الفقه الإمامي طيلة القرون الماضية.
وجاء في مقدمة الكتاب: كُتب الكثير تحت عنوان تاريخ الفقه الإسلامي أو ما يُشبهه أو يُدانيه، كتاباتٌ تفاوتت كثيراً في مستواها، كما تخالفت من حيث مفهوم كلمة ( فقه ) الذي نصبت نفسها لمعالجة تاريخه ، ذلك المفهوم الذي كثيراً مارأيناه يختلط بـ ( الشريعة) وبـ ( السُنّة) وبـ ( الحديث ). وأيضاً تفاوتت من حيث غرض الكاتب وما يسعى إليه، ومن حيث المنهج الذي اتبعه فيما خطّته يداه.
والحقيقة التي ينبغي التصريح بها وأخذها بالاعتبار منذ البداية، أن هذا النمط من الكتابة التاريخيّة هو أعصاها على عامل البحث، وأقلّها طواعيّة لعمل الباحث. التاريخ الحدّثي ، سياسيّاً واجتماعيّاً، بالفروع الكثيرة لهذا الثاني (الاجتماعي)، يتعامل مع ظواهر تحدث في بنية المجتمع، يمكن رصدها وتسجيلها وتركيبها، بحيث يمكن أن تأتي في النهاية على طبق مُراد الباحث وما سعى إليه.
أما التاريخ الثقافي، أو ما هو أحرى بأن يُسمّى تاريخ الحياة العقليّة، فهو يتعامل مع أمور تحدث تحت مستوى الملاحظة العادية، أي أنّه ما من سبيلٍ إلى رصدها رصداً مباشراً. وإنما نرصدها غالباً من خلال سيرة وسلوك النّخبة، التي تُعبّر باعمالها الفكرية الأصيلة عمّا هو كامن، مضى ينضج بهدؤ في أرحام العقول ، استجابةً لمقتضىً سياسيّ أو اجتماعيّ أو منهجيّ ، ولاينقصه سوى النّصّ، الموكول توليده حصراً إلى الإنسان النَّخبوي، الذي يولّده توليداً وليس يُخلّقه تخليقا.
فإذا هو وقع في خطيئة التخليق، أتى الوليد أشبه بالخديج ، رحلته في هذه الدنيا قصيرة: من الرّحم إلى القبر. وسنقف إن شاء الله في طيّات الكتاب على نماذج من الاثنين، نماذج من التخليق ، ونماذج من التوليد.
ولقد شغل موضوع هذا الكتاب بالي، وكان موضع اهتمامي مدة طويلة. كنت أثناءها مهتماً بوضع هيكلي للبحث ، ظل دائماً عرضة للتبديل وللتعديل.
إلى جانب ملفٍ خاص بالمعلومات التي قد أقع عليها ، وتبدو لي ذات علاقةٍ بموضوع الكتاب العتيد، أُغذّي بها الملفّ السّمين.
ومع أن ذلك العمل التمهيدي كان يتقدّم باستمرار، والملفّ الخاص به ينتفخ بما يُضاف إليه، فإنّني تهیّبتُ الشروع في تركيب البحث، وما ذلك إلا لأنّني لم أكن مقتنعاً بما فيه الكفاية بأنني، بما اجتمع لدي من معلومات، قد ملكت ناصية البداية. أعني تلك اللحظة الخارقة ، التي تُولّد حالةً تتجاوز نفسها، فتكون بمثابة البادئ لسلسلةً متصلةً من الأعمال، ترمي وتنتهي بالفعل إلى إنتاج النصّ الفقهي.
إلى أن اكتشفتها بعملي على كتابي السابق ( التاريخ السّرّي للإمامة). أعني بادرة الإمام الصادق (ع) إلى إعداد ثمّ لتكون الرّافعة والحاضنة للإنطلاقة الأولى باتجاه استيلاد نظام فكري إحيائي، يُعيد للإسلام روحه المُستَلَبَة. من ضمنه طبعاً إعادة الأحكام الإسلاميّة الأصيلة إلى موقعها الطبيعي، بوصفها الناظم للعلاقات في كافة أوجه النشاط والعمل.
من هنا كانت البداية، إن نحن أخذنا الاستمرار بعين الاعتبار. بُغيتنا في هذا الكتاب بكتبه الأربعة أن نحكي القصّة الرائعة لحركة الفكر الإمامي، انطلاقاً من الشريعة باتجاه الفقه. الشريعة بوصفها التشريع الربّاني الذي لا مُبدّل له من حيث المبدأ ، والفقه باعتباره حصيلة الجهد البشري اجتهاداً واستنباطاً وتفصيلاً وتنفيذاً للشريعة وللسنّة وللحديث، بوصفها مصادر الفقيه لاستنباط الفقه/ الفتوى.
وهي حركة اقتضت جهود أجيالٍ من النّخبة المُفكّرة، مضت تبني وتعطي البناء، وكأنّها في عملها تستهدي بخطةٍ مُحكمّة، بل هي بالفعل كذلك. المُهم أن تلك الحركة ما تزال عالقةً وستبقى إن شاء الله ، في علاقةٍ حيّةٍ مع بيئتها ومقتضياتها.في الذهن الآن خطةً للمشروع كلّه تقضي برصد حركة الفكر، الذي مضى يستولد الفقه في مدارسه الأساسيّة الأربعة: فم فبغداد فالحلة فجبل عامل.
وما لم يطرأ تعديل على هذه الخطة أثناء العمل لسبب ما أو لغيره. ونظراً لما يتطلّبه تنسيق أكوام المعلومات ومن ثمّ تركيبها من وقتٍ وجُهد، فإنّنا سنقسمه إلى أربعة كُتُب ، نخصّص الأوّل منها بالحركة الأولى، أعني قمّ ومداها الحيوي في إيران وما وراء النهر. بينما نترك باقي الكتاب للمدارس الثلاثة الباقيات. وقد اخترتُ لأجزائه اسم كُتُب لأنّ كلّ بحث منها يُمكن أن يكون كتاباً مستقلاً بنفسه. وإن يكن تكاملها في عملٍ واحد يمنحها نکهة خاصّة.
بعد كلام لابدّ منه على المُصطلح يستوعب كامل الفصل الأول من الكتاب الأول، سنبدأ في الفصل الثاني من هذا الكتاب بقضاء حق الكوفة أیّام علي (ع) ، ليس لأنه من إشكاليًات البحث، بل لأنّه حقّ تأسيسيّ منكور . فيه سنصف، بقدر ما تُعطينا إياه المصادر، كيف عمل الإمام على اصطناع بداية منهجيّة لانطلاقةٍ معرفيّةٍ إسلاميّة رشيدة، مُتقدّمة بالقياس لما هو معمول به يومذاك. وتكون البديل للسياسة الرّسميّة تجاه النصّ النبوي، التي قضت بمنع تدوينه ثم بحصر تداوله.
الأمر الذي ترك مساحة فراغٍ واسعة ، لا يُؤمن أن تُستغل من قبل أي سلطة لملئها بما يُناسب أغراضها ومراميها الضيّقة ، وليس بما يعود بالنفع على الأمّة. الأمر الذي سيحصل بالفعل على یدّي معاوية وعبد الملك بن مروان .
اهتمّ الإمام، على الرغم من همومه الثّقال في الكوفة، بأن يؤسّس لعملٍ منهجي ، تدلّ أسماء ما صدر عن أربابه من تصانيف على أصالته وأسبقيته.
ولولا أن هذا المشروع انقطع بفاجعة الشهادة المفاجئة للإمام ، لكان أهلاً لأن يكون الرافعة الأولى لعمل تأصيلي متطوّر ، سيكون هو الذي يستدرك ما يمكن استدراكه من أخطاء السياسة ، وبذلك كان سيدخل في إشكاليات الكتاب. ولم يكن علينا أن ننتظر زهاء قرن من الزمان ، حيث الإمام الصادق (ع) سيرعى ويُوجّه ظهور قم حاضرة علميّة ، لتحمل المشعل وتُغذّ به السير إلى الأمام ، كما لا يزال وسيبقى وستبقى إن شاء الله.
ستكون الإشكاليّات الأساسيّة أمام البحث والباحث في هذا الباب الأول: ماذا فعلت قُم، أو ماذا كان دورها في إطلاق العمل النهضوي الذي قاده ورعاه الإمام الصادق (ع) ؟ أين خَطَت إلى الأمام باتجاه نشأة الفقه، ثم ما الذي مكث في الأرض من إنجازاتها ؟ ثم كيف وأين انتشر حضورها الفكري في الفضاء المُحيط بها، وكيف انتهى وانتهت؟ ثم ما هي الإنجازات الباقية من هذه الحركة إجمالاً ؟
من المعلوم لدى القارئٍ العارف اللبيب أنّ كلّ هذه التساؤلات / الإشكاليّات غير مسبوقة. أعني أنّها لم تُطرح في سوق الفكر مقدمة لمعالجتها. وأتذكر أنني وقفت عليها قبل بضع سنين في كتابي ( رجال الأشعريين من المحدّثين وأصحاب الأئمة )، ووعدت القارئ بالعودة إليها.
وإنّني أرجو أن أكون قد وفيت له بهذا الكتاب بما كنت قد وعدته به، وإن أتى الآن تحت عنوانٍ مختلف. الشكر لله سبحانه على ما وفّق وأعان في هذا البحث . وأسأله سبحانه أن یتابع علی نعمته فیما بقی منه.
وقد تضمن الكتاب أربعة أبواب وقراءة مستقبلية، وفي كل باب عدة فصول تحكي رواية تطور الفقه الإمامي.
فالباب الأول تحدث عن المفاهيم والمصطلحات المعتمدة في الفقه والتاريخ ومن ثم عرض لنشوء الفقه في الكوفة أيام الإمام علي عليه السلام ومن ثم تطور الفقه على أيدي الأئمة وعن دور مدينة قم وسمرقند وبلدان ما وراء النهر، وفي الباب الثاني يتحدث عن مدرسة بغداد الفقهية ودور العلماء المؤسسين، والباب الثالث يتحدث عن مدينة الحلة ومدارسها، أما الباب الرابع فيخصص لدور جبل عامل ومدارسه وعلمائه.
ويختتم الكتاب بقراءة مستقبلية حول إشكالية تدوين تاريخ الفقه الإمامي وبعض الموضوعات التي تحتاج لإنتاج فقهي جديد كعلاقة السلطة بالأمة ودور الفنون والمرأة وبيوت المال أو المصارف، كما يدعو المؤلف إلى ضرورة أن يواكب الفقه المتغيرات الحاصلة على الصعيد الإسلامي عامة وعلى الصعيد الشيعي خاصة بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتحديات التي فرضتها.
هذا الكتاب هو محاولة جديدة في تأريخ المذهب الإمامي وتطوره الفقهي والعقائدي وهو يُضاف إلى سلسلة الجهود والمحاولات العلمية الجادة في هذا المجال.
عن المؤلف
المحقّق والأكاديمي العلّامة الدكتور الشيخ جعفر المهاجر، صاحب المؤلفات المتميّزة في تاريخ الشيعة وتاريخ جبل عامل؛ (التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريا)، (ستة فقهاء أبطال)، (الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي)، (جبل عامل بين الشهيدين)، (حسام الدين بشارة أمير جبل عامل)، (مالك الأشتر.. سيرته ومقامه في بعلبك) وغيرها ممّا يدور على توثيق حقباتٍ هامّةٍ ومغيّبةٍ من تاريخ شيعة آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وتاريخ جبل عامل، الحاضرة الموالية للإسلام المحمّدي – العَلويّ منذ أن نزلها أصدقُ مَن أقلّت الغبراء وأظلّت الخضراء.
المصدر: الإجتهاد