النسب
هو عَمْرو بن قَرَظة بن كعب بن عمرو بن عائد بن زيد بن مَناة بن ثعلبة بن كعب ابن الخزرج، الأنصاريّ الخزرجيّ الكوفيّ ( من عرب الجنوب ـ اليمن ). قال ابن حَزْم مُعرّفاً بأبيه: هو الشاعر المعروف بابن الأطانبة « قَرَظة بن كعب بن عمرو » الشاعر، له صُحبة ( أي مع النبيّ صلّى الله عليه وآله ). وكان لقرظة بن عمرو ابنان: عمرو ـ قُتِل مع الحسين، وآخَرُ ( لم يُسَمِّه ) مع عمر بن سعد (1).
إلى ذلك.. كان قَرَظة من الصحابة الرواة، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام، نزل الكوفة وحارب إلى جانب أمير المؤمنين سلام الله عليه في حروبه وولاّه عليه السّلام بلادَ فارس، وتُوفّيَ سنة 51 هجريّة، وقيل: هو أوّل مَن نِيحَ عليه بالكوفة. وقد خلّف قرظة أولاداً.. أشهرهم عَمْرو (2)، فما هي ـ يا تُرى ـ مواقفُه ؟
الأصالة
على نهج أبيه ( قَرَظَة ).. والى عَمْرو آلَ الرسول صلّى الله عليه وعليهم، فجاء إلى الإمام أبي عبدالله صلوات الله عليه أيّامَ المُهادَنة، عند نزوله بكربلاء قبل الممانعة، فأخذ الإمام الحسين عليه السّلام يُرسل عَمْرو بن قرظة الأنصاريّ إلى عمر بن سعد مُفاوِضاً في المكالمة التي دارَتْ بينهما قبل إرسال شمر بن ذي الجوشن، فيأتيه عمرو بالجواب (3)، حتّى كان القطع بين الإمام الحسين عليه السّلام وعمر بن سعد بوصول شمر (4).
الإذن.. القتال
لمّا كان اليومُ العاشر من المحرّم.. صَفّ الإمامُ الحسين عليه السّلام عسكره، بعد أن صلّى بهم صلاة الفجر، وقام خطيباً فيهم، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله تعالى أذِنَ في قتلِكُم وقَتْلي في هذا اليوم، فعليكُم بالصبر والقتال (5).
وابتدأ عمرُ بن سعد بفتنته، فرمى بسهمٍ نحو عسكر الحسين عليه السّلام وقال: اشهَدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَن رمى! ثمّ رمى الناس، فلم يبقَ مِن أصحاب الحسين عليه السّلام أحدٌ إلاّ أصابه من سهامهم (6)، وكان الإمام الحسين عليه السّلام يقول: أكرَهُ أن أبدأهم بقتال (7). ولكنْ بعد ذلك نادى سيّد الشهداء عليه السّلام بأصحابه: قُوموا ـ رحمكم الله ـ إلى الموت الذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهامَ رُسُلُ القوم إليكم. فحَمَل أصحابه حملةً واحدة، واقتَتَلوا ساعة.. فما انجَلَت الغبرةُ إلاّ عن خمسين صريعاً (8).
ولمّا نظر الإمام الحسين عليه السّلام إلى كثرة مَن قُتِل من أصحابه، أخذ الرَّجُلان والثلاثة يستأذنونه في الذَّبّ عنه والدفع عن حُرَمه.. ولمّا رأى عليه السّلام كثرةَ مَن قُتل من أصحابه، قَبَض على شَيبته المُقدَّسة وقال: اشتَدّ غَضَبُ الله على اليهود؛ إذْ جَعَلوا له وَلَداً. واشتدّ غَضَبُ الله على النصارى؛ إذ جَعَلوه ثالثَ ثلاثة. واشتَدّ غَضَبُ الله على المجوس؛ إذ عَبَدوا الشمسَ والقمرَ دونَه. واشتَدّ غَضَب الله على قومٍ آتَّفَقتْ كلمتُهم على قتلِ ابنِ بنتِ نبيِّهم!! أمَا واللهِ لا أُجيبهم إلى شيءٍ ممّا يريدون، حتّى ألقى اللهَ وأنا مُخضَّبٌ بدمي. ثمّ صاح: أما مِن مُغيثٍ يُغيثُنا! أما مِن ذابٍّ يَذُبّ عن حُرَم رسول الله! (9)
فأخذ أصحاب الإمام الحسين سلام الله عليه ـ بعد أن قلّ عددهم، وبانَ النقصُ فيهم ـ يبرز الرجلُ بعد الرجل، فخرج مسلم بن عَوسَجة وحبيب بن مظاهر والحرّ الرياحيّ وأبو ثُمامة الصائديّ.. فقاتلوا حتّى استُشهدوا.
وتقدّم عمرُو بن قَرَظَة الأنصاريّ يستأذنُ إمامَه الحسين سيّدَ شباب أهل الجنّة عليه السّلام في القتال، فأذِنَ سلام الله عليه له، فبرَزَ وهو يقول:
قـد عَلِمـتْ كتـائبُ الأنصـارِ أنْ سوفَ أحمـي حَوزَةَ الذِّمـارِ
فِعْلَ غُلامٍ غيـرِ نُكْـسٍ، شـارِ دونَ حسينٍ مُهجتي وداري! (10)
وكا عمرو بن قرظة يُعرّض بهذه الكلمات بعمر بن سعد ويهجوه، لأنّ الإمام الحسين عليه السّلام لمّا قال لعمر بن سعد: صِرْ معي، قال عمر: أخاف على داري، فقال له الحسين عليه السّلام: أنا أُعوّضُك عنه مِن مالي بالحجاز. فتكرّه عمر بن سعد.. وكان الإمام الحسين عليه السّلام قد أرسل عمرَو بن قرظة إلى ابن سعد يطلب الاجتماعَ معه ليلاً بين المعسكرَين، فخرَجَ كلٌّ منهما في عشرين فارساً (11).
وجال عمرو بن قرظة الأنصاريّ يقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالَغَ في خدمة سلطان السماء، حتّى قتلَ جمعاً كثيراً من حزب عبيدالله بن زياد، وجمَعَ بين سَدادٍ وجهاد (12).
الفِداء.. اللّقاء
بعد أن قاتَلَ عَمْرو بن قرظة الأنصاريّ ساعةً.. يصول ويجول وحده وسط جموع الأعداء، رجع إلى الإمام الحسين عليه السّلام؛ إذْ رآه في خطر، حيث توجّهت إليه سهام اللؤماء والحاقدين ورماحهم، فوقف يقي بنفسِه سيّدَه وإمامه الحسين صلوات الله عليه.. فجعل يتلقّى السهامَ بصدره وجبهته، ويصدّ السيوفَ ببدنه ومهجته، واقفاً أمام الحسين كالسدّ المنيع، فلم يَصِلْ إلى الإمام سلام الله عليه سوء، حتّى أُثخِن عمرو بن قَرَظة بالجراح فهَوى على الأرض وعيناه شاخصتانِ في وجه سيّد الشهداء، حريصتانِ عليه، وشَفَتاه تُتمتمان: أوفَيتُ يا ابنَ رسول الله ؟
فأجابه سيّد شباب أهل الجنّة عليه السّلام:
ـ نعم، أنتَ أمامي في الجنّة، فأقِرئْ رسولَ اللهِ عنّي السلام، وأعْلِمْه أنّي في الأثر.
وخَرّ عَمرٌو شهيداً (13).
بعد أن فدى إمامَه بنفسه الطاهرة، فأحزَنَه مصرعُه، وكذا أحزَنَ حجّة الله المهديَّ المنتظر « عجّلَ الله تعالى فرَجَه الشريف »، فكان منه إليه سلامُه في زيارته عليه السّلام لشهداء طفّ كربلاء:
السلامُ على عَمْرِو بنِ قَرَظةَ الأنصاريّ (14).
شتّان!
وتتجلّى حِكَمُ الله تعالى في كلّ واقعة وابتلاء لِيَمِيزَ اللهُ الخبيثَ مِنَ الطيِّبِ ويَجعَلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيَرْكُمَه جميعاً فيجَعَلَه في جَهنّمَ، أولئكَ هُمُ الخاسِرون (15)، وتلك إرادة الله جلّ وعلا ومشيئته في خَلْقه وعباده، وهو القائل عزّ مِن قائل: ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ المؤمنينَ على ما أنتُم عليهِ حتّى يَمِيزَ الخبيثَ مِنَ الطيِّب.. (16).
وفي كربلاء الحسين.. يُستَشهدُ عمرُو بن قَرَظة الأنصاريّ دون الإمام الحسين، فيخرج أخوه عليُّ بن قَرَظَة ـ وكان يقاتل إلى جانب عمر بن سعد ـ وقد أخذَتْه العصبيّة الجاهليّة الرَّعناء على إثْر قتل أخيه، وهو أحد قاتليه وإن لم يكنْ مباشراً! فبرز من الصفّ ونادى بما يليق به وبأصحابه:
ـ يا حسين يا ......! أغَرَرتَ أخي حتّى قتلتَه ؟!
فأجابه الإمام الحسين عليه السّلام يكشف له عن الحقيقة:
ـ إنّي لم أغُرَّ أخاك، ولكنّ اللهَ هَداه وأضلَّك!
فتقدّم عليّ بن قَرَظَة وهو يقول بحماقة: قَتَلني الله إن لم أقتلْك!
وحمل على الإمام الحسين عليه السّلام ليطعنه، فاعترضه نافعُ بن هلالٍ الجَمَليّ فطعَنَه حتّى صرعه، فحملَ أصحابُه عليه واستنقذوا عليّاً وعالجوه (17).
إلى الرحمانِ يومَ الحشرِ نَسعى وعنـدَ اللهِ يجتمـعُ الخصـومُ