من سيرة النبي نوح(ع): قصة نوح(ع) مع قومه...إشكالاتهم و ردوده!
ثم يلخص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ﴾ ثم يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرة أخرى ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾...
ولا شك أن قصة جهاد نوح (ع) المتواصل للمستكبرين في عصره، وعاقبتهم الوخيمة، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية، والتي تتضمن دروسا هامة في كل واقعة منها.. والقرآن الكريم يبين بداية هذه الدعوة العظيمة فيقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
ثم يلخص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ﴾ ثم يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرة أخرى ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾.
في الحقيقة إن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الأنبياء جميعا. فلننظر الآن أول رد فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وامثالهم إزاء إنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!
لا شك إنه لم يكن سوى حفنة من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أولئك دعوة نوح بثلاثة إشكالات:
الأول: إن الأشراف والمترفين من قوم نوح (ع) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك:﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ زعما منهم أن الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى البشر! وظنا منهم أن مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أن الملائكة تعرف حاجات الإنسان أكثر منه.
الولي يعرف من زواره
والإشكال الثاني: إنهم قالوا: يا نوح؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلا حفنة من الأرذال وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.
إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع، وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من زواره – كما يقال" فحين نلاحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنة من الأرذال والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك الأثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!
وصحيح أنهم كانوا صادقين ومصيبين في أن الزعيم يعرف عن طريق اتباعه، إلا أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلة من الاشراف.
إن روح الطبقة كانت حاكمة على افكارهم في اسوأ أشكالها، ولذلك كانوا يسمون الفقراء الحفاة بالأراذل.
ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي، لأدركوا جيدا أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النبي وأصالنها!
وإنما سموهم بـ"بادي الرأي" أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أن اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح (ع) لأن معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الانبياء (ع) وأعمالهم.
الإشكال الثالث: الذي أوردوه على نوح (ع) أنهم قالوا: بالإضافة الى أنك إنسان ولست ملكا، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأرذال، فإننا لا نرى لكم علينا فضلا ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾.
جواب نوح (ع)
القرآن الكريم يبين رد نوح (ع) وإجاباته المنطقية على هؤلاء حيث يقول: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾.
مع التدبر في الآية يتضح أن هذا الجواب يمكن أن يكون جوابا للإشكالات الثلاثة بأسرها.
لأن أول إشكال أوردوه على نوح هو: لم كنت إنسانا مثلنا ولم تكن ملكا؟ فكان جوابه لهم: صحيح إنني بشر مثلكم، ولكن الله آتاني رحمة وبينة ودليلا واضحا من عنده، فلا تمنع بشريتي هذه من أداء هذه الرسالة العظيمة، ولا ضرورة لأن أكون ملكا.
والإشكال الثاني هو: إن اتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردهم بالقول: إنكم أحق بهذا الإتهام، لأنكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة، وعندي أدلة كافية ومقنعة لكل من يطلب الحقيقة، إلا إنها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!
والإشكال الثالث: إنهم قالوا: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ فكان جواب نوح (ع): أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على إتهامي بالكذب، فدلائل الصدق عندي واضحة ومجلية!..
وفي الختام يقول النبي نوح (ع) لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الإستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدين لها وكارهون لها ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾.
ما أنا بطارد الذين آمنوا
﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ﴾.
وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء إنني لا أبتغي هدفا ماديا من منهجي هذا، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه، ولا يستطيع مدع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.
وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون إلى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويعقب نوح(ع) بعد ذلك في رده على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لأنهم سيلاقون ربهم ويخاصمونني في الدار الآخرة ﴿إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾. ثم يختم كلامه لقومه بأنكم جاهلون ﴿وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾.
وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري، وتزعمون أن هؤلاء المؤمنين العفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه! هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم. ثم أنتم تتصورون – بجهلكم- أن يكون النبي من الملائكة، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحس بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.
ثم يقول لهم موضحا: إنني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا ﴿ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ﴾.
فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عني ويخلصني من عدل الله، ولربما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا، أم أنكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ .
ولا أقول لكم عندي خزائن الله
وآخر ما يجيب نوح قومه ويرد على اشكالاتهم الواهية.. إنكم إذا كنتم تتصورون أن، لي إمتيازا آخر غير الإعجاز الذي لدي عن طريق الوحي فذلك خطأ، وأقول لكم بصراحة: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ ولا أقول لكم إنني مطلع على الغيب ﴿اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ ولا أدعي إنني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلا ﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾.
فهذه الإدعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدعون الكذبة، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون، لأن خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القدسية وحدها، ولا ينسجم الملك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضا..
فكل من يدعي واحدا من هذه الأمور الثلاثة المتقدمة – أو جميعها – فهو كاذب.
وفي الختام يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا ...﴾.
بل على العكس تماما، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا عفاة لخلو أيديهم من المال والثروة.. فأنتم الذين تحسبون الخير منحصرا في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماما.
وعلى فرض صحة مدعاكم أرذال و"أوباش" فـ ﴿اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ﴾.
أنا الذي لا أرى منهم شيئا سوى الصدق والإيمان يجب علي قبولهم، لأني مأمور بالظاهر، والعارف بأسرار العباد هو الله سبحانه، فإن عملت غير عملي هذا كنت آثما ﴿إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟!
القرآن الكريم يتحدث عن قوم نوح (ع) أنهم: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾.
فأين ما تعدنا به من عذاب الله ﴿فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
وهذا الأمر يشبه تماما عندما ندخل في جدال مع شخص أو أشخاص ونسمع منهم تهديدا ضمنيا حين المجادلة فنقول: كفى هذا الكلام الكثير!! إذهبوا وافعلوا ما شئتم ولاتتأخروا، فمثل هذا الكلام يشير إلى إننا لا نكترث بكلامهم ولا نخاف من تهديدهم، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاما أكثر.
فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبة من قبل أنبياء الله ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب، إنما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.
في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوح (ع) بأنه سعى مدة طويلة لهداية قومه، ولم يترك فرصة للوصول إلى الهدف إلا انتهزها لإرشادهم، ولكن قومه الضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيدا في سائر الآيات التي تتحدث عن نوح (ع) وقومه في القرآن. ففي سورة نوح (ع) بيان لهذه الظاهرة بشكل واف – أيضا- حيث تقرأ فيها: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾.
لقد أجاب نوح (ع) بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الإعتناء بقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء﴾ فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إنما أنا رسوله ومطيع لأمره، فلا تطلبوا مني العذاب والعقاب!.. ولكن حين يحل عذابه فاعلموا إنكم لا تقدرون أن تفروا من يد قدرته أو تلجأوا إلى مأمن آخر ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾.