كان إبراهيم يتابع خطته بدقة متناهية، فأول شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي لا تحس ولا تتكلم وإذا كنتم تقولون: إنها سنة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين.
وفي المرحلة الثانية أقدم على خطة عملية ليبين أن هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كل من ينظر إليها نظرة إحتقار، خاصة وأنه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطمها تماما، وليوضح أن تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.
وفي المرحلة الثالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخية إلى طريق مسدود، فمرة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارة خاطب عقولهم، وأخرى وعظم، وأحيانا وبخهم ولامهم. والخلاصة، فإن هذا المعلم الكبير قد دخل من كل الأبواب، وإستخدم كل طاقته، إلا أن من المسلم أن القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين أولئك القوم للأسف.
ولكن لا شك أن كلمات إبراهيم (ع) وأفعاله بقيت كأرضية للتوحيد، أو على الأقل بقيت كعلامات إستفهام في أذهان أولئك، وأصبحت مقدمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أن جماعة آمنوا به، وهم وإن قلوا عددا، إلا أنهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيأوا الإستعداد النسبي لفئة أخرى.
مع أن عبدة الأوثان اسقط مافي أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العملية والمنطقية، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلا أن عنادهم وتعصبهم الشديد منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قرارا صارما وخطيرا في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صوره، أي حرقه وجعله رمادا.
هناك علاقة عكسية بين القوة والمنطق عادة، فكل من إشتدت قوته ضعف منطقه، إلا رجال الحق فإنهم كلما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.
وعندما لا يحقق المتعصبون شيئا عن طريق المنطق، فسوف يتوسلون بالقوة فورا، وقد طبقت هذه الخطة في حق إبراهيم تماما يقول القرآن الكريم: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾.
إن المتسلطين المتعنتين يستغلون نقاط الضعف النفسية لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم ? عادة ? لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وألقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إن آلهتكم ومقدساتكم مههدة بالخطر، وقد سحقت سنة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل- ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوة وقدرة.
انظروا إلى كل الناس يدافعون عن مقدساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكل مقدساتكم؟!
والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضد إبراهيم بحيث أنهم لم يكتفوا بعدة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلا من الحطب ثم أشعلوه فاتقدت منه نار مهولة كأنها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السماء لينتقموا من إبراهيم أولا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطمتها خطته وأسقطت أبهتها!!
لقد كتب المؤرخون هنا مطالب كثيرة، لا يبدوا أي منها بعيدا...
إن الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كل مكان، وقد وصل الأمر إلى أن النساء اللاتي كان عملهن الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلا من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنهم يضيفون مقدارا من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النار في الحطب من كل جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تسطيع الطيور أن تمر فوقها.
من البديهي أن نارا بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النار المترامية الأطراف بحركة سريعة.