من سيرة النبي إبراهيم (ع)..إبراهيم في محكمة النمروديين

الأربعاء 22 يونيو 2022 - 08:36 بتوقيت غرينتش
من سيرة النبي إبراهيم (ع)..إبراهيم في محكمة النمروديين

إن من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أن آثار الجريمة كانت بادية على يد الصم الكبير، وفقا للرواية المعروفة: إن إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير!.

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

في المقالة السابقة ذكرنا لكم ما فعله النبي ابراهيم الخليل بالأصنام و كان بانتظار عبدة الأصنام أن يعودوا بعد انتهاء يوم العيد . فتابعوا معنا ماذا حدث بعد ذلك...

وأخيرا إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى المعبد مباشرة، حتى يظهروا ولائهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبركت بزعمهم  بمجاورة الأصنام، فما إن دخلوا المعبد حتى واجهوامنظرا أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلا من الأيادي والأرجل المكسرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾؟! ولا ريب أن من فعل ذلك فـ ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلا أن جماعة منهم تذكروا ما سمعوه من إبراهيم (ع) وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.

صحيح إن إبراهيم كان شابا، وربما لم يكن سنه يتجاوز (16) عاما، وصحيح أن كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلا أن من المسلم به أن مراد عباد الأصنام لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إن إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إن فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا... أي إنه فرد مجهول تماما، ولا شخصية له في نظرهم.

إن المألوف عادة  عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجهت إليه أفكار الجميع، و ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾(28) عليه بالجريمة.

فنادى المنادون في نواحي المدينة: "ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام"، فإجتمع كل الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتهم؟

لقد حدثت ضجة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأن هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شاب مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزت البناء الديني للناس.

حجة إبراهيم الدامغة:

وأخيرا تشكلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، يقال: إن نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة، وأول سؤال وجهوه إلى إبراهيم (ع) هو أن: ﴿قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾؟

هؤلاء لم يكونوا مستعدين حتى للقول: أأنت حطمت آلهتنا وجعلتها قطعا متناشرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾(29).

إن من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أن آثار الجريمة كانت بادية على يد الصم الكبير، وفقا للرواية المعروفة: إن إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير!.

لماذا تأتون إلي؟ ولماذا لا تتهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنه إعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

إن إبراهيم (ع) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا، إلا أن كل القرائن تشهد أنه لم يكن جادا في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفندها أمامهم، ويفهم هؤلاء أن هذه الأحجار والأخشاب التي لاحياة فيها ذليلة وعاجزة إلى حد الذي لا تستطيع أن تتكلم بجملة واحدة تستنجد بعبادها، فكيف يريدون منها أن تحل معضلاتهم؟! ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليومية، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضع أمامه مسلماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الإستفهام، وهذا ليس كذبا أبدا، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) في كتاب الكافي: "إنما قال: بل فعلها كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنهم لا يفعلون" ثم قال: "والله ما فعلوه وما كذب".

لقد هزت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقضت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.

في لحظة سريعة إستيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾(30) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدسة.

والطريف في الأمر أننا قرأنا سابقا أنهم غتهموا إبراهيم بكونه ظالما، وهنا قبلوا وإعترفوا في أنفسهم بأن الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم. وفي الواقع فإن كل مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيون العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثير لهذه المسالة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصبين.

إلى الآن إستطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حساسة جدا من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسية هائجة.

ما هؤلاء ينطقون؟

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، وثارت في ضمائرهم الملوثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضد نور التوحيد هذا، ورجع كل شيء إلى حالته الأولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ﴾ ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾ فإنهم دائما صامتون، ولايحطمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.

وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للإستدلال المنطقي ليوجه لهم أشد هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُم﴾؟