القرآن الكريم يشير من جهة إلى إمرأة نوح وابنه كنعان اللذين قطعا علاقتهما بنوح على أثر إنحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأن الشرط الأول للركوب هو الإيمان...
آية الله مكارم الشيرازي
ويشير من جهة أخرى إلى أن ثمرة جهاد نوح (ع) بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر القليل القليل!
بعض الروايات تقول إنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصا فقط، وتشير بعض الروايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النبي العظيم نوح (ع) من الصبر والإستقامة "في درجة قصوى بحيث كان معدل ما يبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريبا، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.
حادثة ابن نوح المؤلمة
﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ(1) فإن مصيرك إلى الفناء إذا لم تركب معنا.
لم يكن نوح هذا النبي العظيم أبا فحسب، بل كان مربيا لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن للأسف كان أثر المحيط السيئ عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرق عليه.
لذلك فإن هذا الولد اللجوج الاحمق، وظنا منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحا و ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾ ولكن نوحا لم ييأس مرة أخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾ ولا ينجو من هذا الغرق إلا من شمله لطف الله ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾.
يا نوح انه ليس من أهلك
حين رأى نوح إبنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾.
وهذا الوعد هو ما أشير إليه في سورة هود حيث يقول سبحانه: نوحا ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾(2).
فكان أن تصور نوح أن قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح رب العزة بهذا الكلام.
ولكنه سمع الجواب مباشرة.. جواب يهز هزا كما إنه يكشف عن حقيقة كبيرة.. حقيقة إن الرباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة.. ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.
فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
فأحس نوح أن طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحا، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده مما وعد الله به في نجاة أهله، لذلك توجه إلى الله معتذرا مستغفرا و ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾(3).
نهاية الحادث
الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجيا، أما المجرمون الجهلة فظنا منهم أنه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شيء، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.
وكان نوح (ع) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما "من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة" وعلى رواية " من عاشر شهر رجب حتى عاشر محرم". وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض، وطبقا لما جاء في بعض الروايات أنها سارت على أرض مكة وطافت السفينة حول الكعبة. وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية، والقرآن يبين هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدا، وفي الوقت ذاته بليغة وأخاذة، في جمل ست:
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ﴾ صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.
﴿وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾ وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.
﴿وَغِيضَ الْمَاء﴾ ونزل الماء في جوف الأرض.
﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ انتهى حكم الله.
﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.
﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(4) عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.
كم هي رائعة هذه التعابير وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الأخاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إن هذه الآية تعد أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة والفصاحة(5).
الهوامش:
-1هود، 42.
2-هود، 40.
3-نوح، 46-47.
4-هود، 44.
5-الشاهد على هذا الكلام هو أننا نقرأ في روايات التاريخ الإسلامي أن جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوما، مثل لب الحتطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ? لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها، ولكنهم حين بلغوا هذه الآية ? محل البعث- هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر: هذا كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا عما اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين.
المصدر: تفسير الأمثل
إقرأ أيضا : من سيرة النبي نوح(ع)...و إتصلت مياه الأرض بمياه السماء!!!
إقرأ أيضا : من سيرة النبي نوح(ع)...ما هو إسمه و لماذا لقب بنوح؟