{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً}[النّساء: 97 ـــ 99 ]
إنّ هذه الآيات تتحدّث عن موقف هؤلاء المستضعفين أمام الله يوم القيامة، في لحظات الحساب، على مواقفهم في الدّنيا، واستسلامهم للظّلم، بخضوعهم للظالمين، وتنفيذهم لكلّ ما يريدون منهم ويخطّطون لهم.
فكيف عالجت هذه المواقف معهم؟
إنّهم ظلموا أنفسهم بالسّير مع مخطّطات الظّالمين، معتقدين أو ظانّين، أنّ ضعفهم وعدم قدرتهم على الحركة، يبرّر لهم الرّضا الخانع بالواقع.
ولكنّ الآية تتحدّث عن فكرةٍ حاسمة تواجههم في موقف المسؤوليّة؛ إنّ هناك مجالاً للهجرة إذا لم يمكن التحرّك في الداخل. فالأرض واسعة لا تضيق على أحد، فمن يهاجر فيها، من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا في إقامة الحقّ والعدل على الأرض، بعيداً عن الضّغوط التي تدفعه إلى السّير في خطّ الانحراف، يجد المجال واسعاً لذلك. فإذا مات وهو في هذا السَّبيل، فإنّ أجره على الله، لأنّه مات وهو مهاجرٌ إلى الله ورسوله.
ولم يستثن القرآن الكريم من المسؤوليَّة، إلّا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الّذين لا يملكون القدرة على التحرّك، ولا يهتدون حيلة للتخلّص من المأزق، ولا يجدون سبيلاً للخروج منه. فقد جعلهم في موقف الرّجاء بالعفو من دون جزم به، لئلّا يدفعهم إلى الامتداد في الإسراع باعتبار أنفسهم من المستضعفين من غير دراسة واسعة للموقف، من حيث طبيعة القدرة المتاحة، والظروف الموضوعيّة المحيطة بهم، أو لأنّهم قصّروا ـــ في البداية ـــ فاستسلموا لإغراءات الظلم أو تهويلاته، وساروا معه حتّى أعطوه القوّة، من قوّتهم، فلمّا أخذ بأسباب القوّة وثبّتت جذوره في الأرض، بدأ في تفريغهم من القوَّة، وإغلاق المنافذ عليهم من كلّ جانب، حتى تحوّلوا إلى مستضعفين لا يهتدون حيلةً ولا يجدون سبيلاً، أو لغير ذلك من الأسباب التي تجعل الإنسان واقفاً بين الخوف والرّجاء، وإنْ كان موقف الرّجاء أقرب، كما نستوحيه من فعل الترجّي.
وهناك الكثير من الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن المواقف الضّعيفة التي يشعر بها الضّعفاء بالانسحاق إزاء إرادة الكبراء، بفعل شعورهم بالضّعف تجاه قوّة أولئك، فيستسلمون لما يرسمونه من مخطّطات وأعمال وانحرافات، فيأتي القرآن الكريم ليحدّثنا في أكثر من آية، عن الحوار الدّائر بين هؤلاء وبين أولئك في يوم القيامة، ليوحي للضّعفاء ـــ قبل أنْ يواجهوا الله يوم القيامة ـــ بالتمرّد على إرادة الكبراء في الدنيا، والعمل على استثارة القوّة الذاتية التي أودعها الله فيهم، لمواجهة ضغوطهم الكبيرة والصّغيرة، لأنّ الضّعف الذي يقود إلى الانحراف، مع قدرة الإنسان على المقاومة، لا يبرّر الانحراف أمام الله، فإنّه سيحمِّل صاحبه المسؤوليّة كاملة أمام الله. قال الله تعالى:
{وَبَرَزُواْ للهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[إبراهيم: 21]
وينطلق القرآن بعيداً ـــ في هذا الأسلوب ـــ ليعمّق، في نفوس الجماعات المغلوبة على أمرها، الثّورة على المضطهدين المتنفّذين الذين يغرونهم باتّباع ما يريدون، فيثير أمامنا الصّورة الحيّة التي يواجه فيها كلّ الأطراف مسؤوليّتهم، سواء في ذلك الظّالمون بممارستهم الظّلم، أو المستضعفون، بسكوتهم عنهم وتنفيذهم لمخطَّطاتهم، واتّباعهم لهم في ما يأمرون وفي ما يريدون؛ فيقف المتبوعون ليبدأوا بالتبرّؤ من كلّ مسؤوليّة من أوزار التّابعين، ليحمّلوهم المسؤوليّة كاملة، فلا يملك التابعون إزاء هذا الموقف المتهرّب إلّا أنْ يشعروا بالحاجة إلى الحياة، ليتبرّأوا منهم هناك في حالة حاجتهم إليهم.
إنّ القرآن يجسِّد لنا الصّورة، ويحرّكها في أكثر من اتّجاه، ليدعوَ هؤلاء المسحوقين للتبرّؤ منهم منذ الآن، لئلّا يواجهوا الموقف الّذي يواجهونه بعد الموت، في حالة الاستسلام للضّعف، كعنصر تحذيريّ حاسم.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: 166 ـــ 167]
من كتاب "الإسلام ومنطق القوّة"