آية الله الشيخ جعفر السبحاني (حفظه الله)
الأسلوب: بداعة المنهج وغرابة السبك
الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن، كانت تتردد بين أسلوب المحاورة، وأسلوب الخطابة، وأسلوب الشعر، وأسلوب السجع المتكلف الموجود في كلام العرّافين والكُهّان.
فالأسلوب المحاوري، هو الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع الحوائج، وتيسير الأمور المعيشية. وهذا الأسلوب دارج في كل لغة، ولم يكن في العرب بدعاً منهم، فلم يكن كلامهم عند البيع والشراء، والمعاشرة مثل كلامهم في مقام الخطابة، وإظهار المناقب والفضائل.
والأسلوب الخطابي، هو الأسلوب الرائج بين خطَباء العرب وبُلغائهم. ويكفينا مؤنة بيانه، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية.
1ـ وقف قس بن ساعدة في سوق عُكاظ، وخطب: «أيّها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تَزْخر، وجبال مُرْساة، وأرض مُدْحاة، وأنهار مُجراة، إنّ في السماء لخبراً، وإنّ في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أَرَضوا فأَقاموا، أم تُرِكوا فناموا؟»(1).
2ـ وخطب المأمون الحارثي في قومه، فقال: «أرعوني أسماعكم، وأصغوا إليَّ قلوبكم، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد، طمح بالأهواء الأشر، وران على القلوب الكدر، وطخطخ (أي: غلب) الجهل النظر، إنّ فيما ترى لَمُعْتَبَراً لمن اعتبر، ارض موضوعة وسماء مرفوعة، وشمس تَطْلُعُ وَتَغْرُب، ونجوم تسرى فَتَعْزُب، وقمر تطلعه النور، وتَمْحَقُه أدبار الشهور»(2).
ويرى هذا الأسلوب في خطب النبي وعليّ (عليهما السَّلام) في مواقف مختلفة.
والأسلوب الشعري، هو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العَروض.
وأمّا أسلوب السجع المتكلف، فقد كان يتداوله الكهنة والعرّافون، كما تراه في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور النبي العربي: «يسيح عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا المؤبذان، رأى إبلا صعاباً، تقود خيلا عراباً، حتى اقتحمت الواد، وانتشرت في البلاد» (3).
ولكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب، وخالف بأسلوبه العجيب وسبكه الغريب، جميع الأساليب الدارجة بينهم، ومناهج نظمهم ونثرهم.
ولأجل ذلك لم تتعامل معه العرب معاملة شعر أو نثر، بل أنصف المنصفون منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه وسبكه.
كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة السالفة، ولكنهم لم يعرفوا الأسلوب القرآني الّذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة، تأتي فيها الآيات، وتختم كل واحدة منها بفاصلة ذات نظم ورنين، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على الفاصلة.
إنّ الأسلوب القرآني الّذي تفرّد به، كان أبين وجه وجوه الإعجاز، في نظر الباحثين عن إعجازه، وإن جعلناه أحد الأسس الأربعة الّتي يبنى عليها صرح الإعجاز القرآني.
ولأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي الباقلاني عليه وحصر وجه إعجازه فيه، وقال: "وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف(4). النظم المعتاد في كلام العرب ومبائن لأساليب خطاباتهم، ولهذا لم يمكنهم معارضته".
وأضاف: «ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع الّتي أودعوها في الشعر، لأنّه ليس ممّا يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك. فأمّا شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى، ولا إمام يقتدى به، ولا يصحّ وقوع مثله اتّفاقاً." (5)
وممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأُسلوبه الراقي هو الأصفهاني على ما حكاه السيوطي فإنّه بعدما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة، والنثر المسجع، والشعر، قال: «ولكل من ذلك نظم مخصوص، والقرآن جامع لمحاسن الجميع، على نظم غير نظم شيء منها، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له: «رسالة»، أو «خطابة»، أو «شعر»، أو «سجع». كما يصحّ أن يقال هو كلام. والبليغ إذا قرع القرآن سمعه، فصل بينه وبين ما عداه من النظم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فصلت:41-42)، تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن ان يغير بالزيادة والنقصان كحال الكتب الأخرى»(6).
*الإلهيات. آية الله جعفر السبحاني، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3، ص317-324.
1-صبح الأعشى، ج1 ص212. وإعجاز القرآن، ص124. البيان والتبيين، ج1، ص168. الأغاني، ج 14، ص40. العَقْد الفريد ج2، ص156. ومجمع الأمثال للميداني، ج1، ص74.
2- الأمالي، لأبي علي القالي، ج1 ص276.
3-تاريخ الطبري، ج2، ص132. والعقد الفريد، ج1، ص108. والسيرة الحلبية، ج1، ص70. والمختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء، ج1، ص110.
4- مراده من النظم والتأليف والترصيف هو الأسلوب لا النظم الّذي اصطلحنا عليه في الدعامة الثالثة، كما يظهر من القرائن وأنّه خارج عن وجوه جميع.
5- الإتقان في علوم القرآن، ج4، ص8.
6- الإتقان، ج4، ص11. وهو يشير إلى أنّ التغيير في القرآن يوجب التغيير في تأليفه أوّلاً، وأُسلوبه ثانياً.