بقلم محمد شرف الدين
قال تعالى :" وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ"هود/ 113.
انّ هذه الآية تبيّن واحدا من أقوى و أهم الاسس و البرامج الاجتماعية و السياسية و العسكرية و العقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: " وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا" و السبب واضح "فَتَمَسَّكُمُ النَّار"
ولكي نصل الى هذه النتيجة لا بد لنا خوض المباحث الاتية
أ- تحديد المراد من " الركون"
نقل القرطبي في جامعه عدة معان بقوله " الركون حقيقة الاستناد و- الاعتماد و- السكون إلى، الشيء و- الرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم و- لا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب. و- قال ابن زيد: الركون هنا الإدهان و- ذلك ألا ينكر عليهم كفرهم
وذهب الجصاص الى ان " الركون إلى الشيء هو السكون إليه بالأنس و المحبة"
وكذلك الطوسي في تبيانه " و (الركون) الى الشيء هو السكون اليه بالمحبة اليه و الإنصات اليه، و نقيضه النفور عنه."
ونقل الطبراني عدة اقوال في معنى "وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا" أي لا تميلوا إلى الذين ظلموا بالأنس بهم و المحبّة و الرضا بفعلهم، قال السديّ: (و لا تداهنوا الظّلمة)، و قال أبو العالية: (لا ترضوا بأعمالهم) ، و قال عكرمة: (هو أن يحبّهم)، و قال قتادة: (و لا تلحقوا المشركين) .
وبعد ذكر هذه الاقوال المتعددة يذهب السيد العلامة في ميزانه الى " و الحق أنه الاعتماد على الشيء عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب و لذلك عدي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم.
فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها و إما في حياة دينية كان يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامة أو المودة التي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية."
وقد ارجع الشيخ مكارم الشيرازي كل هذه المعاني المذكورة الى المعنى الاخير بقوله " مفهوم «الركون» مشتق من مادة «ركن» و معناه العمود الضخم من الحجر او الجدار الذي يربط البناء او الأشياء الاخرى بعضها الى بعض، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الاعتماد او الاستناد الى الشيء."
ب- تحديد المراد من " الذين ظلموا "
ذهب بعض المفسرين الى ان المراد هنا: هم الكفرة، و يدخل بالمعنى أهل المعاصي. وذهب بعضهم الاخر الى ان المراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما... و قد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر الَّذِينَ ظَلَمُوا بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا
واليه ذهب القرطبي ايضاً .
ولكن العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه فصّلَ في بيان المراد هنا حيث قال
" أن المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما و إلا لعم جميع الناس إلا أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذ معنى، و ليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم....
بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات السابقة من الأمم الهالكة، و كان الشأن في قصتهم أنه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمن ردها بالذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: «وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» و قوله «وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» و قوله «وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» و قوله: «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ» و قوله: «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» إلى غير ذلك.
فقد عبر سبحانه عن ردهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهية و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدال على مجرد التحقق و الوقوع، و أما في الخارج من مقام القياس و النسبة فإن التعبير بالصفة كقوله: «وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» و قوله: «وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ» و قوله: «وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» إلى غير ذلك و هو كثير.
و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردا أن يكتفي بمجرد الوقوع و التحقق، و يبين أنهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتصاف و الاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتبعوا أمر فرعون أنهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتباع أمر فرعون، و معنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الإيمان و تعلموا بعلامته.
ج-دلالة الاية
الأول: أن المنهي عنه في الآية إنما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الأمور العامة أو إجراء الأمور الدينية بأيدهم و قوتهم و أشباه ذلك.
الثاني: أن الركون المنهي عنه في الآية أخص من الولاية المنهي عنها في آيات أخرى كثيرة فإن الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي أن كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلي، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعم مما يكون بالفعل.
الثالث: أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شيء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحق و عملهم الحق جانب ظلمهم و باطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه.
و أما الميل إلى شيء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.
المصدر : شبكة براثا