حادثة رفع المصاحف في واقعة صفين .."أبشع مهازل التاريخ"

الأربعاء 1 يناير 2020 - 10:43 بتوقيت غرينتش
حادثة رفع المصاحف في واقعة صفين .."أبشع مهازل التاريخ"

اسلاميات_الكوثر: إنَّ أبشع مهزلة في التاريخ البشري، وأسوأ كارثة مُنّي بها المسلمون على امتداد التاريخ، هي مكيدة رفع المصاحف، وقد وصفها «راوجوست ميلر» بأنّها من أبشع المهازل وأسوأها في التاريخ البشري.

وأعتقد أنّ هذه المكيدة القاصمة لم تكن وليدة المصادفة أو المفاجأة، فقد حيكت أصولها قبل هذا الوقت، فقد كان ابن العاص الماكر الخبيث وزير معاوية، على اتّصالٍ دائمٍ ببعض القادة في الجيش العراقي، كان من بينهم الخبيث العميل الأشعث بن قيس، مع جماعة من قادة الجيش العراقي، وجرت بينهم وبين ابن العاص اتّصالات سرّية أحيطت بكثيرٍ من الكتمان بتدبير مؤامرة انقلابية في جيش الإمام، وذهب إلى هذا الرأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، قائلاً: «فما أستبعد أن يكون الأشعث بن قيس، وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم، قد اتّصل بعمرو بن العاص، ماكر أهل الشام وداهيتهم، ودبّرا هذا الأمر بينهم تدبيراً، ودبّرا أن يقاتلوا القوم، فإن ظهر أهل الشام فذاك، وإن خافوا الهزيمة أو أشرفوا عليها، رفعوا المصاحف، فأوقعوا الفرقة بين أصحاب عليّ، وجعلوا بأسهم بينهم شديداً».

وعلى أيّ حال، فقد بدت الهزيمة المنكرة في جيش معاوية، وانهارت جميع قواه العسكرية، ففزع إلى ابن العاص، وقال له بذعر وخوف: إنّما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفصيل، فما ترى؟ وأشار عليه ابن العاص قائلاً: إنّ رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله، هو يقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على أمر آخر، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشّام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم، ولكن ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا، وإن ردّوه اختلفوا، ادعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم، فأنت بالغٌ به حاجتك في القوم، فإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.

واستطاب معاوية رأي ابن العاص، وعرف صدق نصيحته، فمعاوية يقاتل الإمام من أجل الملك والسلطان، والإمام يقاتله من أجل الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض.

وعلى أيّ حال، فقد أوعز معاوية برفع المصاحف أمام الجيش العراقي، فرفعت زهاء خمسمائة مصحف، وتعالت أصوات أهل الشام بلهجة واحدة:

يا أهل العراق! هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفّار؟

وكانت هذه الهتافات التي تعالت من أهل الشام كالصاعقة على رؤوس الجيش العراقي، فقد انقلب رأساً على عقب، فخلع طاعة الإمام، ومني بانقلاب مدمّر، وراح الإمام الممتحن يحذِّر جيشه من هذه الدعاوى المضلّلة، ويفنّد مزاعم معاوية.

يا لسوء الأقدار! يا للأسف! يا للمصيبة العظمى! لقد أحاطت تلك الوحوش الكاسرة والبهائم المخدوعة بالإمام المظلوم الممتحن، وكان عددهم زهاء عشرين ألفاً، وهم مقنَّعون بالحديد، شاكّون بالسلاح، قد اسودّت وجوههم من السجود، يتقدّمهم مسعر بن فدكيّ، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين، قائلين: يا عليّ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم... فردّ عليهم الإمام قائلاً، والأسى ملء فؤاده: «ويحكم، أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلّ لي ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون».

لقد نصحهم الإمام ودلّهم على زيف هذه الحيلة، وإنّما لجأوا إليها لفشلهم في العمليات العسكرية، وأنّهم لم يقصدوا بها إلاّ خداعهم... ومن المؤسف أنَّ تلك الوحوش لم تعِ منطق الإمام، وانخدعوا بهذه المكيدة، وراحوا في غيّهم يعمهون، وقد جلبوا لأنفسهم ولأمّتهم الدمار والهلاك، فاندفعوا كالموج صوب الإمام بأصوات عالية قائلين: أجب القوم... أجب القوم وإلاّ قتلناك... وفي طليعة هؤلاء، المنافق الخبيث الأشعث بن قيس، الذي كان على اتّصال وثيق بابن العاص، فقد تسلّح بهؤلاء المتمرّدين، وهو ينادي بقبول التحكيم، والاستجابة لدعوة أهل الشام.

ولم يجد الإمام بدّاً من إجابتهم، فأصدر أوامره بإيقاف عمليات الحرب، وقد ذاب قلبه الشريف ألماً وحزناً، فقد أيقن بزوال دولة الحقّ، وانتصار دولة الظلم والبغي، وأنّ دماء جيشه التي سفكت في سبيل الله قد ضاعت وذهبت سدى.

وأصرّ عليه أولئك الأقزام بسحب قائده العام مالك الأشتر من ساحة الحرب، وكان الأشتر قد أشرف على نهاية الفتح، ولم يبق بينه وبين النصر الحاسم إلاّ حلبة شاة أو عدوة فرس، فأرسل إليه الإمام بإيقاف العمليات العسكرية، فلم يعن مالك بما أمر به، وقال لرسول الإمام: قل لسيّدي ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إنّي قد رجوت الله أن يفتح لي، فلا تعجلني... وقفل الرسول راجعاً إلى الإمام، وأخبره بمقالة مالك، فارتفعت أصوات أولئك الوحوش بالإنكار على الإمام، قائلين له: والله! ما نراك أمرته إلاّ أن يقاتل... وامتحن الإمام المظلوم كأشدّ ما يكون الامتحان، فقال لهم: أرأيتموني ساررت رسولي إليه، أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية، وأنتم تسمعون؟ ولم يستجيبوا لقول الإمام، وأصرّوا على تمرّدهم وغيّهم قائلين: ابعث إليه فليأتك، وإلاّ فوالله اعتزلناك!... وأجمعوا على الشرّ والعدوان، قائلين بعنف: إبعث إليه فليأتك ...وأجمعوا على الفتك بالإمام ومناجزته، فلم يجد الإمام بدّاً من إصدار أوامره المشدَّدة إلى مالك بالانسحاب الفوري عن ساحة الحرب، فاستجاب الأشتر على كره، وقد انهارت قواه، فقال لرسول الإمام: ألرفع هذه المصاحف حدثت هذه الفتنة؟ نعم.

وعرف الأشتر أنّ مكيدة ابن العاص قد أوجدت هذا الانقلاب في جيش الإمام، فقال بحرارة وألم: أما والله! لقد ظننت أنّها ـ أي رفع المصاحف ـ ستوقع اختلافاً وفرقة، إنّها مشورة عمرو بن العاص، ألا ترى إلى الفتح؟! ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى ما يصنع الله بهم؟ أيبتغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟ وأحاطه رسول الإمام علماً بحراجة الموقف والأخطار الهائلة المحدقة بالإمام، قائلاً: أتحبّ أنّك إن ظفرت هاهنا، وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرّج عنه، ويسلّم إلى عدوّه؟... فقال الأشتر مقالة المؤمن الممتحن: سبحان الله! لا والله، ما أحبّ ذلك.

وطفق رسول الإمام يخبر الأشتر بحراجة الموقف، وما أحيط به الإمام من أخطار، قائلاً: إنّهم قالوا: لترسلنّ إلى الأشتر، فليأتينّك، أو لنقتلنّك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفّان، أو لنسلمنّك إلى عدوّك...

وقفل الأشتر راجعاً، وقد ذهبت نفسه شعاعاً، فقد تحطّمت آماله، وضاعت أهدافه، وخسر المعركة بعد أن أشرف على الظّفر، وطلب من أولئك الممسوخين أن يخلّوا بينه وبين عدوّهم الذي سفك دماءهم، وحصد رؤوس أخيارهم، وأنزل أفدح الخسائر الموجعة بهم، فلم يذعنوا له، ولم يستجيبوا لقوله، وطلب منهم قائلاً: أمهلوني عدوة الفرس، فإنّي قد طمعت في النصر.

فردّوا عليه بشراسة وعنف قائلين: إذاً ندخل معك في خطيئتك... وانبرى الأشتر يحاججهم ببالغ الحجّة، ويفنّد ببرهانه ما ذهبوا إليه، قائلاً: فحدّثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقّين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال محقّون، فقتلاكم إذاً الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم في النار...

ولم تجدِ معهم هذه الحجج، وراحوا مصرّين على جهلهم وغيّهم الذي جرّ للمسلمين الويلات والكوارث، وألقاهم في شرّ عظيم... واندفع هؤلاء الممسوخون قائلين للأشتر: دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله إنّا لا نطيعك، فاجتنبنا... وأخذ الأشتر يمعن في نصحهم، ويحذّرهم مغبّة هذه الفتنة العمياء، وأنّهم لا يرون عزّاً أبداً. وفعلاً، فقد صاروا بعد هذا التمرّد أذلّ من قوم سبأ، فقد آل الأمر إلى معاوية، فأخذ يسومهم سوء العذاب، ويسقيهم كأساً مصبرة.

وطلب مالك من الإمام أن يناجزهم الحرب، فأبى، لأنّهم كانوا الأكثرية الساحقة في جيشه، وفتح باب الحرب معهم يؤدّي إلى أفظع النتائج، لأنّهم يقعون فريسة سائغة بأيدي الأمويّين.

وأطرق الإمام الممتحن برأسه إلى الأرض، وقد طافت به موجات من الألم القاسي، وتمثّلت أمامه الأخطار المحدقة بالمسلمين، فلم يكلّم هؤلاء الوحوش بكلمة، وراحوا يهتفون: إنّ عليّاً أمير المؤمنين قد رضي الحكومة، ورضي بحكم القرآن... وغرق الإمام في تيارات قاسية وموجعة من الألم الممضّ، فقد مني بانقلابٍ مدمّرٍ في جيشه، ولا يستطيع أن يعمل أيّ شيء، وراح يقول: «لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت ناهياً فأصبحت اليوم منهيّاً».

وتركهم يتخبّطون في دياجير قاتمة أدّت إلى هلاكهم، وانتصار الجور والطغيان عليهم.

التحكيم:
وانتصر معاوية، وطار فرحاً على ما آل إليه جيش الإمام من التمرّد والعصيان، وكتب إلى الإمام رسالةً جاء فيها:
«أمّا بعد، عافانا الله وإيّاك، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا والألفة بيننا، وقد فعلت، وأنا أعرف حقّي، ولكن اشتريت بالعفو صلاح الأمّة، ولا أكثر فرحاً بشيء جاء ولا ذهب، وإنّما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحقّ فيما بين الباغي والمبغيّ عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك، فإنّه لا يجمعنا وإيّاك إلاّ هو، نحيي ما أحيا القرآن، ونميت ما أمات القرآن، والسلام».

وحفلت هذه الرسالة بالكذب والنفاق، فهل معاوية بن هند يعرف القرآن ويخضع له، وهو وأبوه وأمّه ومعهم الكثير من الأسر القرشية، قد كفروا بالقرآن وآمنوا بأصنامهم وأوثانهم؟

ولم يعرض معاوية إلى دم عثمان في رسالته، وإنّما عرض إلى الكذب السافر، فقد أعرب أنّه يبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أيّ معروف هذا الذي ينشده هذا الذئب الجاهلي؟ وأيّ منكر ينكره؟ وهو الذي سفك دماء المسلمين وأغرق البلاد بالمحن والخطوب؟

رسالة الإمام لابن العاص:
وكتب الإمام رسالةً لابن العاص يعظه ويرشده إلى اتّباع الحقّ، وجاء في رسالته: «أمّا بعد، فإنّ الدّنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلاّ فتحت له حرصاً يزيده فيها رغبة، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلغه، ومن وراء ذلك فراق ما جمع، والسّعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أبا عبد الله أجرك، ولا تجار معاوية في باطله».

ولم يستجب ابن العاص للإمام، وكتب له الرسالة التالية: «أمّا بعد، فإنَّ ما فيه صلاحنا وإلف ذات بيننا، الإنابة إلى الحقّ، وقد جعلنا القرآن حكماً بيننا فأجبنا إليه، وصبّر الرّجل منّا نفسه على ما حكم عليه القرآن، وعذره الناس بعد المحاجزة، والسلام».

وأصرّ ابن العاص على غيّه وأطماعه، وكتب له الإمام رسالةً أخرى، فأعرض عنها، ولم يتجاوب مع الإمام، وتمسَّك بابن هند. وعلى أيّ حال، فلم تقف محنة الإمام وبلاؤه عند هذا الحدّ من عصيان جيشه، فقد تجاوز الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك، فقد حيكت مؤامرة دبّرها الأشعث مع جماعة من قادة الجيش إلى انتخاب الأشعري الخامل المنافق الذي هو من ألدّ أعداء الإمام، ومن أكثرهم حقداً عليه، ليقوم بتنفيذ المؤامرة، وهي عزل الإمام عن الحكم...

الشّيخ باقر شريف القرشي، موسوعة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)