إنها (كربلاء) التي شهدت أول صرخة ثورية دامية للمسلمين ضد الظالمين, فأصبحت منذ ذلك اليوم منبع حزن لا يزول, وفورة غضب لا تهدأ فواكبها الشعراء منذ الحدث الحسيني, منذ عاشوراء حتى الآن عبر اتجاهات ومحاور ومواضيع متعددة, فكان للشعر العربي من ذلك ثروة لا تقدر.
من خلال هذا الموضوع نحاول تسليط الضوء على هذه المحاور والاتجاهات والمواضيع التي تناولها الشعراء بذكر الأبيات والقصائد التي ورد فيها اسم (كربلاء) للشعراء من مختلف العصور, ونترك للقارئ التأمل فيها ليستشف من تلك المحاور التي استقى الشاعر من كربلاء ما تجسّدت في هذه البقعة من قيم إنسانية عليا, إضافة إلى ترجمة لهؤلاء الشعراء وتواريخ ولاداتهم ووفياتهم كونها تشكل أهمية بالغة, إذ أنها تؤكد على أن كربلاء لم تزل متجددة منذ يوم عاشوراء إلى الآن في النفوس, كما تعطي صورة عن ملامح الشعر في تلك الفترة.
لقد كانت الفكرة أن يتوفر هذا الموضوع على الأسماء الأخرى لكربلاء كونها تؤدي مؤداها مثل: (الطف, ونينوى, والغاضرية, والطفوف، والنواويس وغيرها), ولكننا وجدنا أن من العسير جداً الإلمام بكل هذه الأسماء في الشعر لكثرة ورودها فيه, لذلك فسيقتصر هذا الموضوع على ذكر الشعر الذي ورد فيه اسم (كربلاء) بالمد و(كربلا) بالقصر فقط رغم أن هذا أيضاً يتضاءل عنده الجهد.
فعملية الاستقصاء عن هذا الاسم عند الشعراء على مدى أربعة عشر قرناً يحتاج إلى جهدٍ مضنٍ, كما أن المصادر القليلة التي لدينا لا تكوّن المقدار الكافي من الشعر الذي يعطي فكرة متكاملة عن النهج الذي اختطه الشعراء في تناولهم كربلاء.
شكر وعرفان
ولكن هذا الموضوع كُتب له أن يتم والحمد لله, فقد عرضت فكرة هذا الموضوع على بعض الأساتذة الأجلاء فأبدوا استعدادهم لتيسير كل المصادر التي يحتاجها هذا الموضوع, وقدّموا كل التسهيلات على توفيرها فلهم مني كل الشكر والامتنان.
ونرى من الأولى التنويه بهذا الفضل الكبير لهؤلاء السادة الكرام وذكر المصادر التي أتحفونا بها والتي تتوَّج بها هذا الموضوع، ومن خلال هذا التنويه نتقدم بالشكر الجزيل والعرفان للأستاذ علي التميمي، والدكتور علي حسين يوسف أستاذ الأدب العربي، والشيخ مشتاق المظفر (أبو كوثر) مدير مجمع الإمام الحسين العلمي لتحقيق تراث أهل البيت (عليهم السلام)، والأستاذ محمد عبد الأمير السفاك معاون المجمع، والأستاذ محمود الأنباري مدير المكتبة المركزية، والأخ محمد علي متولي مكتبة جامع الإمام علي (عليه السلام) ـ البلوش ـ الذي فتح لنا المكتبة على مصراعيها ويسّر لنا كل المصادر التي يحتاجها هذا الموضوع، كما نشكر كل الشعراء الذين بعثوا لنا بقصائدهم وسيرهم الذاتية فلهم جميعا منّا وافر الشكر على التسهيلات التي قدموها.
أما بالنسبة إلى المصادر التي ارتكز عليها هذا الموضوع فكثيرة أهمها: دائرة المعارف الحسينية للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي قدم خدمة جليلة للأدب بشكل عام والأدب الحسيني بشكل خاص في إنشاء هذه الموسوعة, وإضافة إلى هذه الموسوعة فقد استقى هذا الموضوع من مصادر مهمة كشعراء الغري، وشعراء الحلة، وشعراء بغداد للأستاذ علي الخاقاني, وأدب الطف للسيد جواد شبر, وكتاب رياض المدح والرثاء للشيخ حسين علي البلادي البحراني، والمنتخب للطريحي، وموسوعة العتبات المقدسة ــ قسم كربلاء ــ للأستاذ جعفر الخليلي, ومدينة الحسين للسيد الكليدار آل طعمة، وشعراء كربلاء للسيد سلمان هادي آل طعمة، وكتاب (دفتر الشجي) لناجي بن داود بن علي الحرز الذي احتوى على قصائد لمائة شاعر من الإحساء إضافة إلى مجموعة كبيرة من الدواوين لشعراء من مختلف العصور وكتب أخرى في النقد الأدبي.
كربلاء في أول الشعر
في حذو منهج السبق الزمني لذكر كربلاء في الشعر العربي وجدنا إن مصدرين فقط ورد فيهما اسم كربلاء قبل استشهاد الإمام الحسين (علیه السلام) فيها, أول هذين المصدرين والذي رجّح المؤرخون على أنه أول شعر ذكر هذه الأرض كان في سنة (12 هـ / 633 م)، وهو لـ (معن بن أوس المزني), وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، ومن المعمّرين، سافر إلى الشام والبصرة وكفّ بصره فكان يتردد على عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعُمِّر حتى أدرك قيام عبد الله بن الزبير فصحبه وقد كفّ بصره في آخر عمره، ومات عام (64هـ / 683م).
ومن الغريب أن هذا الشعر الذي قاله معن والذي ورد فيه اسم كربلاء كان قصيدة طويلة عدّها المؤرخون من ضمن قصائد (النوائح)! وكأن هذه الأرض قد افتتحت حوادثها على الحزن المستديم منذ بواكيرها وأبت أن يفارقها هذا الحزن، وقد ذكر هذه القصيدة ياقوت الحموي (1) وأبو الفرج الأصفهاني (2) في ترجمة معن، أما البيت الذي ذكر فيه كربلاء فهو:
إذا هي حلّت (كربلاء) فلعلعا *** فجوزُ العذيبِ دونها فالنوائحا
وقصة قصيدة معن بن أوس المزني التي ذكر فيها كربلاء كما ذكرها الحموي والأصفهاني قالها معن في غزو خالد بن الوليد كربلاء وسبي أهلها وهي:
(لما توجّه خالد إلى المدائن فلم يجد معابر فدلّوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى أصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها) فقال معن قصيدة طويلة يصف هذه الحادثة ومن هذه القصيدة الطويلة قوله يصف هذه الحادثة:
إذا هيَ حلّـــتْ (كربلاء) فـلعلعا *** فجوزُ العذيبِ دونها فــالنوائحا
فبانتْ نواها من نواك فطاوعت *** مع الشانئين الشانئات الكواشحا
توهمتُ ربعاً بـــالمعبَّرِ واضحاً *** أبتْ قرّتــــــاهُ اليوم إلّا تراوحا
أربَّت عليه رأدة حضـــــــرمية *** ومرتجزٌ كأنَّ فيه المصــــــابحا
فقولا لليلى هــــل تعوِّضُ نادياً *** له رجعـــة قال الطلاق ممازحا
فإن هيَ قالت: لا تقولا لها بلى *** ألا تتقين الجــــــارياتِ الذوابحا
ويعد هذا الشعر هو أقدم شعر ذكرت فيه كربلاء وكأن طينتها عجنت بماء الحزن فأبى أن يفارقها, ولمعن قصائد أخرى كثيرة وهو صاحب لامية العجم التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجلُ *** على أيِّنا تعدو المنية أولُ
المصدر الثاني
أما البيت الثاني فتاريخه هو نفس السنة (12 هـ / 633 م) ولم تسمِّ المصادر قائله سوى إنه: لــ (رجل من أشجع) كما ذكر ذلك الطبري وهو:
لقد حُبستْ في (كربلاء) مطيَّتي *** وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها
والعين هي مدينة عين التمر (شثاثا) الآن وتبعد عن كربلاء قرابة 80 كم. ومع عدم الجزم بتقدّم البيت الأول على الثاني في السبق الزمني أو بالعكس فإن هذين البيتين هما أول شعر ذُكر فيه اسم كربلاء في تاريخ الشعر العربي وكلاهما قيل في نفس السنة ونفس الحادثة.
أما قصة البيت الثاني فقد رواها الطبري وياقوت في قصة غزو خالد بن الوليد العراق ونزوله كربلاء حيث أقام فيها أياماً فشكى إليه عبد الله بن وثيمة النصري الذباب فقال رجل من أشجع (ولم يسمِّه الطبري) فيما شكا ابن وثيمة :
لقد حُبستْ في (كربلاء) مطيّتي *** وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها
إذا رحلت من منـزلٍ رجعت له *** لعمـــــــــري وإيها إنني لأهينُها
ويمنعها من مـــــاءِ كلِّ شريعةٍ *** رفــــاقٌ من الذبِّانِ زرقٌ عيونُها (3)
كربلاء الحسين
ثم تبدأ مرحلة جديدة لكربلاء مع الشعر بعد أن حملت إرثاً عظيماً ضخماً، وأثراً عميقاً مدوِّياً، منذ اصطبغت أرضها بدماء الشهادة، واستوعبت تلك الروح الكبيرة التي حملت مبادئ السماء لتجسّدها تجسيداً كاملاً وبأروع صورة على أرضها، فبثت في الشعر روحه، وأسبغت عليه جوهره، ولقنته خلقه وإبداعه، وبالمقابل فقد استمد هو منها كنهه.
وهكذا بدأت رحلة الشعراء مع كربلاء التي لم تتوقف في أقسى الظروف وأبشعها وأشدها إرهاباً ورعباً, ولن تتوقف مادامت القلوب تنبض بالحياة, وما دامت دروس كربلاء تزخر بالعطاء, لترسم للمسلمين ملحمتهم الخالدة.
لقد استقطبت ملحمة كربلاء قمم الشعر العربي على مدى أدواره وقرونه, فراحوا ينهلون من تلك الوقفة التي وقفها سيد الشهداء عظمة الإباء, وعظمة الثورة, كما كانت كربلاء عرقاً ينبض فيهم في كل زمان ومكان فصدحوا بها حتى في زمن الحكومات التي حاربت هذا الاسم أشد من حربها أعدائها.
فرغم سياسة البطش والتنكيل التي استعملها الأمويون والعباسيون ضد شعراء الحقيقة إلا أن أسم الحسين وكربلاء لم ينقطع عن أفواههم فنجد من يقول (إني أحمل خشبتي هذه على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها) ووصل اسم كربلاء إلى أبعد أصقاع الأرض فما أن وطأت أقدام المسلمين أرض الأندلس حتى تفجّر على لسان شعرائهم اسم كربلاء وشاركهم في نهجهم الشعراء الفاطميون والحمدانيون والبويهيون وفي سجل التاريخ الكثير من الأسماء التي تربعت على عرش الشعر في عصورها استقت من كربلاء.
كربلاء متجددة
لقد أفصح الكم الهائل من القصائد التي تناولت كربلاء على مدى قرون طويلة عن مفهوم أن التاريخ سياق يتحرك باستمرار, فالإرث العظيم الذي حملته هذه المدينة المقدسة بقيمه السامية ومبادئه العظيمة تجاوز التراث, وكان أكثر حضوراً وإشراقاً في وجدان الأمة جيلاً بعد جيل, فانصهر صوت الشاعر مع كربلاء ليعبر من خلالها عن طموحات الأمة وتطلعاتها نحو مستقبل مشرق.
وقد استلهم الشعراء واقعة كربلاء بدلالات تكسر الحواجز والأبعاد وبإحالات معاصرة ووظفوها في الواقع بأساليب فنية جديدة وصاغوا نماذج أدبية رفيعة تنضح بالجرح المدمّى والأثر العميق المتجذّر في الوجدان مستلهمين معاني عاشوراء في الثورة والاستشهاد. فأصبحت الدماء التي سالت في كربلاء رمزاً للحق ووساماً على صدور الأحرار وتضحية عظيمة، فالخير لا ينتصر بالكلمات فقط، إنما في الكفاح والدماء فوسم الشعراء قضية الحسين بأروع كتاباتهم فهي تشرق مع الشمس لتدخل أشعتها نوافذ بيوتهم، وتتألق في الورود والصباح، وتثمر بالخبز والحياة والكرامة... رأس الحسين غدا وردة في الحدائق، وأنشودة للمتعبين ونهراً ونافذة للمطر... الحسين يتجلى في كل زمان ومكان ليس بطلاً فحسب بل هو التحقيق المادي الذي يتجسد عبر الأزمنة في الأبطال والمدافعين عن شرف الأمة وحريتها وكرامتها. الحسين هو النموذج الذي يتمثله الانسان رمزاً للاستشهاد مقابل النموذج الشر كرمز مناقض في الوجدان الإسلامي والإنساني.
لقد أذكت كربلاء الروح الثورية لدى المسلمين والتي حاول الأمويون إخمادها واستمرت تلك الروح في الثورات التي تلتها والتي اتخذت من كربلاء عاملاً مهماً من عوامل إثارة النفوس فكانت كربلاء رمزاً وشعاراً وروحاً لكل الثورات التي قامت ضد الظلم والباطل.
كربلاء .. في ضمير الأمة
وقد مثّل شعر كربلاء دوراً مهماً في إحياء تفاصيل تلك الثورة بل كان من أكبر العوامل في التأثير في النفوس, خصوصاً إن كربلاء كانت صرخة لا تُخمد ومأساة وفاجعة تجلّ عن الوصف, كما كان دور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كبيراً في ترسيخ كربلاء بكل تفاصيلها في ضمير الأمة وإبقائها حية من خلال التأكيد والدعوة إلى تشجيع الشعراء وعقد المجالس الشعرية الخاصة برثاء الحسين (عليه السلام) والحث عليه.
فقد حرصوا (عليهم السلام) أشد الحرص على إبقاء روحية الثورة الحسينية ومبادئها متجذرة في النفوس وحية في الضمائر ولهم في ذلك روايات كثيرة جداً, واستمرت هذه الأشعار في تصعيد روح الثورة في الوجدان الشعبي حتى أصبح هذا الشعر ما لا يمكن حصره أو تعداده يقول الشيخ محمد جواد مغنية: (ما عرفت البشرية جمعاء من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي) (4)
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ: (ما أحسب أن التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام ويتحدّون الزمن أن يغيّبها في متاهة النسيان) (5)
كربلاء .. جذوة لا تخمد
من هنا نعرف أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ونظراً لما يشكله الشعر من أهمية خاصة أرادوا أن تمتزج العواطف والمشاعر مع المعاني الإنسانية لسيد الشهداء والأحداث المأساوية التي مرّت عليه وهذا ما يعطيها أبعاداً واحتواء أكثر غنىً وجاذبية، فكان للشعراء دورهم الكبير في إذكاء حادثة كربلاء وإبقاء جذوتها متّقدة في النفوس من خلال التعبير عن مشاعرهم وحبهم للإمام الحسين عليه السلام. وكان من بين هؤلاء الشعراء من تشرّف بزيارة مرقد أبي الأحرار في كربلاء المقدسة، وفيها سكب فيها من القوافي والكلمات المؤثرة، وعبر بشعره عن مدى ولائه للإمام الحسين عليه السلام وإيمانه بقضيته العادلة، وأيضاً إظهار بطولات شهداء الواقعة ومواقفهم الخالدة أمام جبهة الباطل ثم مسير السبايا من نساء النبي الأكرم إلى الشام وما جرى عليهن من المحن وإلى بشاعة الأعمال الإجرامية التي قام بها الأمويون وغيرها من الصور عن حادثة كربلاء. كل ذلك كان يصوره الشاعر بلغة الحزن الذي يغرس فيه انطباعاً بهول المأساة وهو يقف على قبر سيد الشهداء ليؤدي مراسيم زيارته حزناً وشعراً
هذا المنحى التراجيدي كان له وقعاً مؤثراً على الشاعر والمتلقي معاً، فالشاعر هو رسول الألم والحزن بشكل شعري وهو يتألم في نقله الحزن للمتلقي فهو يحكي عن مآسٍ تتفطر لها القلوب، وشعره يتدفق من حزن ينبع في داخله، ويصعد في الدم ضاجاً متألماً، هذا هو الحزن الحقيقي.. حزن أن تعيش المأساة.. فأي دم في ذلك اليوم قد سفك ؟ وأي حريم قد انتهكت ؟
ويستبد الحزن بالشاعر حتى يصبح هذا الحزن داءً ينهش قلبه ويقرح كبده فصورة سيد الشهداء وهو ظمآن ولا يسقى بغير الرماح والسيوف تتغلغل في نفسه وتمتزج بدمه لتصبح جذوة من الغضب والحزن ولتنطلق ضاجّة من الوحشية الأموية فيشيع هذا الحزن عند الشاعر ويصبح شغله الشاغل فهو حزن الإنسان وثورته اللاهبة.
وهناك الكثير من القصائد التي تعد لوحات تراجيدية معبرة عن الألم والحزن العميقين بروح أكثر أفقاً، لذلك اليوم المأساوي على إيقاع حزين كان الشاعر فيها أكثر التحاماً وتداخلاً مع صور مشهد الطف، مثل مقصورة الشريف الرضي وبائية السيد رضا الهندي ولامية السيد حيدر الحلي وكافية السيد جعفر الحلي وغيرها التي صارت أناشيد الطف البكائية فكان لهذا الشعر الرثائي صدى جماهيري واسع حينما يلقى على المنابر لتصويره الجوانب المؤثرة في واقعة كربلاء فلم يشهد تاريخ الأدب العربي انسجاماً وتلاحماً بين الشاعر والمتلقي مثلما حصل في مراثي الحسين فكان ذلك مصداقاً لقول رسول الله (ص): (أن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً).
كربلاء .. ترعب الطغاة
ما إن سقط الإمام الحسين مضرجا بدمه حتى علت الأصوات الأولى لشعراء كربلاء واستمرت هذه المسيرة وتواصلت إلى الآن وإلى الأبد, ومن الجدير بالذكر أيضاً هو أن الذي وصلنا من شعر كربلاء هو النزر اليسير مما قيل, فالحرب التي شنّها الأمويون والعباسيون والعثمانيون وممن سار على منهجهم، على شعراء الشيعة وقتلهم وسجنهم وتشريدهم وتغييب شعرهم كان لها دور في تضييع الكثير من ذلك التراث الضخم, كما لعبت النزعة المذهبية والصراع الأيديولوجي دوراً كبيراً في غياب الكثير جداً من هذا الشعر.
ونجد من الضروري الحديث عن الجريمة التي ارتكبها الأمويون والتي تضاف إلى سجل جرائمهم وهي جريمة قتل الكثير من شعر كربلاء والذي يمثل ذروة التراث الإسلامي ومحاولة إبادته لما يشكله من رعب عليهم لأنه يكشف جرائمهم ويثير الرأي العام ضدهم, وكذلك الحال بالنسبة للعباسيين. وهذا الحديث طويل وشائك ومتشعب فلا تجد شاعراً شيعياً لم يتعرّض شعره للاغتيال والضياع والتضييع من قبل السلطة والمؤرخين معاً وسنفرد لهذا الموضوع بحثاً خاصاً
كربلاء .. المسيرة الخالدة
ولكن مواكب الشعراء بقيت تتوالى عبر الأزمان وهي تطوف حول كربلاء فلا تجد بقعة من بقاع المسلمين لم يلهج شعراؤها باسم الحسين وكربلاء فزخر الأدب العراقي والبحريني والحجازي واللبناني والمصري والسوري والمغربي والعُماني واليمني بصفحات مشرقة من أدب كربلاء وهناك أسماء لا حصر لها واكبت هذه المسيرة منذ الحدث الحسيني, منذ عاشوراء حتى الآن عبر اتجاهات ومحاور ومواضيع متعددة, فكان للشعر العربي من ذلك ثروة لا تقدر.
كربلاء .. في الضمير المسيحي
وتغلغل اسم كربلاء إلى الضمير الإنساني عبر العصور فأصبحت قبلة لعشاق البطولة والإباء بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم ومثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي فلا يزال هذا الصوت متجدِّداً يهزّ الضمائر الحرّة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم فكتبوا الملاحم والقصائد الطويلة وألفوا الكتب والموسوعات عن كربلاء.
ويطالعنا الأدب العربي بقائمة كبيرة من قاماته السامقة من الشعراء والأدباء المسيحيين استلهموا من علي والحسين الروح الإنسانية الكبيرة فكتب الشاعر اللبناني بولس سلامة ملحمة (الغدير) التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت، كما كتب ملحمة (علي والحسين) التي تبلغ (220) بيتا، وكتب عبد المسيح انطاكي (الملحمة العلوية) التي تبلغ (5595) بيتا، وكتب ريمون قسيس ملحمة (الحسين) التي تجاوزت المائة بيت
لقد وجدوا في كربلاء عنوان الحرية والمبادئ الحقة والنهج لشعوب تطمح إلى استقلالها يقول بولس سلامة:
سوفَ يبقى الدمُ الزكي لواءً *** لشعوبٍ تحاولُ استقلالا
ويقول أدوار مرقص:
يا غرّة الشهـــداءِ من عليائها *** لوحــي عليهم كالضياءِ العاقدِ
موسومةً بدمِ الشـهادةِ فهي لا *** تنفـــــكّ تدمي مثلَ زندٍ فاصدِ
كيما يسيروا في الحياةِ بنهجهِ *** لا يخضعونَ لغاصبٍ ومعاندِ
نعم إن ما كان لله ينمو فقد حفظت لنا الأيادي الأمينة هذا الشعر ونقلت إلينا هذا التراث العظيم الذي هو جزء من كربلاء. فكانت هناك قائمة طويلة من الشعراء من مختلف العصور نهلوا من كربلاء.
كربلاء .. تنبض في قلب الشعر
لقد كانت حصيلة كربلاء من الشعر عبر أربعة عشر قرناً كبيرة جداً, ولاتزال تلك الحصيلة مستمرة إلى الآن بالازدياد, وهذا يدعو إلى عدم الجزم بأن كل ما قيل من شعر تضمن اسم كربلاء يحتويه موضوع لذا سنذكر ما استطعنا الحصول عليه من الأبيات والقصائد التي ورد فيها اسم كربلاء.
وبالاعتماد على السبق الزمني للشاعر كانت هناك عقبة وهي أن بعض الشعراء لم يذكر لنا التاريخ سنوات وفياتهم أو ولاداتهم مما يحتم التقديم والتأخير في تسلسلهم لذا فقد كانت طريقة تسلسلهم حسب الحروف الأبجدية هي الأفضل وكذلك الأسهل في الرجوع إلى الشاعر وسنفرد لكل شاعر حلقة خاصة به تتضمن إضافة إلى شعره في كربلاء سيرته وخصائص شعره.
وينبغي الإشارة كذلك إلى أن بعض الأبيات التي ورد فيها اسم كربلاء لم تذكر المصادر اسم قائلها وهذا يستوجب أحد احتمالين أحدهما ان المصدر لم يذكر اسم الشاعر سهواً أو لشهرته في ذلك الوقت، والثاني أنه يمكن أن يكون هذا البيت مجهول القائل كغيره من الأبيات والمقطوعات الكثيرة التي أخفى قائلها اسمه في أوقات عصيبة كان فيها الشاعر الذي يتعرض لحادثة كربلاء يعرض نفسه وأهله للقتل لكن كل ذلك لم يمنعه عن الإفصاح عما تغلغل في نفسه من حرقة وألم فتنطلق أبياته وتتناقلها الناس ولا يدرون لمن هي.
وقد عُرف هذا الشعر في ذلك الوقت بشعر (الهواتف) وهو ما نسب إلى الجن وغيرهم وكذلك شعر (الجداريات) وهو الشعر الذي كان يكتبه الشاعر على جدران الأماكن التي أعدت للاستراحة في السفر فيمر بها الناس ويقرؤونها وتتناقل على الألسن وقد اشتهر بذلك الشاعر ابن مفرغ الحميري الذي كان يهجو الأمويين في شعره, وقد خصصنا لتلك الأبيات مجهولة القائل موضوعا سيلحق مواضيع شعراء كربلاء.
أعداء كربلاء
ونود الإشارة إلى أن هناك أبيات ورد فيها اسم كربلاء تركناها لأنها كانت صدى لأصوات الكفر والنفاق من قتلة الحسين، وكان قائلها من الصف المعادي لكربلاء الحسين من أمويي الهوى وأصحاب البغي والضلالة كقول محمد بن عبد الرحمان المخزومي يخاطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حادثة له مع عبد الملك بن مروان وهو يتشفّى بمقتل سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله):
وجدنا بني مروان أمكــــــرَ غاية *** وآلَ أبي سفيـــــــان أكرم أولا
فسائلْ علي صفين من ثلَّ عرشه *** وسائلْ حسيناً يومَ ماتَ بكربلا
وقد ذكر المرزباني هذين البيتين وقال عند ذكر اسم قائلهما: قال قبحه الله .. (6)
وعقب المحقق الكرباسي على هذين البيتين بالقول: (أراد أنه وجد بني سفيان الذين حكموا أولاً أكرم من بني مروان وهم أهل مكر وغدر، وإن كانوا في الواقع سواء، ولا يُخفى أن هذا الاعتقاد بفضل بني مروان وبني سفيان يبين ميل الشاعر، والغريب أن يعد قتل علي والحسين (ع) من المفاخر وإنما ثلم الدين بقتلهما). (7)
أبيات لا تمثل كربلاء
كما أن هناك أبيات أخرى تركناها لإساءة استخدام الشاعر لهذا الاسم من حيث التوظيف حيث وظّفها لأغراض شعرية لا تتناسب مع قدسية هذه المدينة ومكانتها العظيمة كقول شهاب الدين أحمد الفيومي متغزلاً:
تركت جفني واصلاً والكرى *** راءٍ فـجُد بالوصلِ، فالوصلُ زينْ
ولا تجبني عن ســـؤالي بلا *** فالقلبُ يخشى (كرب لا) يا حسين
فمثل هذه الأبيات لا تمثل كربلاء ولم تصطبغ بصبغتها فليس الغاية من هذا الموضوع هو الجمع فقط، بل بيان ما تمثله كربلاء في ضمائر الشعراء من أثر أيضاً، وهناك أبيات أخرى جاء على ذكرها الشاعر خارج نطاق ملحمتها كوصف نزهة أو غيرها مما يقلل وقع هذا الاسم على السامع وقد تركناها أيضاً كما استبعدنا أيضاً الأبيات التي يشم منها رائحة الغلو لتجنب التحامل.
كما آثرنا ذكر تواريخ ولادة الشعراء ووفياتهم في بداية كل موضوع لأنه يدل على أن كربلاء كانت ولا تزال متجددة, كما لا ننسى أن نشير إلى أننا تتبعنا كربلاء في الشعر الحديث فكان لنا وقفة مع كربلاء في الشعر الحر في قصائد عمالقة هذا الفن اجتمعوا في (كربلاء) وسنذكرهم بعد الشعراء العموديين, أما الشعر العمودي فعند تتبع الخط التاريخي الطويل للشعراء حسب الحروف الأبجدية في ورود اسم كربلاء في شعرهم فالعدد كان كبيراً وسننشر لكل شاعر موضوعاً خاصاً به.
..............................................................
1 ــ معجم البلدان باب كربلاء
2 ــ الأغاني ج 12 ص 63
3 ــ تاريخ الطبري حوادث سنة 12 هـ
4 ــ أدب الطف ج 1 ص 10
5 ــ موسوعة آل النبي في كربلاء ص 765
6 ــ معجم الشعراء ج 1 ص 109
7 ــ ديوان القرن الأول من دائرة المعارف الحسينية ج 2 ص 196
******
الكاتب: محمد طاهر الصفار
المصدر: الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة