{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[الأعراف: 44].
حوار بين فريقين يختصران قصّة الإنسان ومصيره؛ فريق صالح فاز بجنان ربّه واطمأنّ لمصيره، وفريق آخر خسر مصيره ونال سخط ربّه، هذا الحوار البسيط يضعك أمام حقيقة كبرى، حقيقة المصير الذي لا بدّ أن نعمل من أجله ونحذر من الغفلة عنه، حوار يؤنّب فيه أصحاب الجنّة أصحاب النّار لتركهم العمل الصالح وإصرارهم على الكفر والباطل.
جاء في تفسير الطبري: "القول في تأويل قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}. يقول تعالى ذكره: ونادى أهلُ الجنّة أهلَ النار بعد دخولهموها: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا في الدنيا على ألسن رسله، من الثواب على الإيمان به وبهم، وعلى طاعته، فهل وجدتم ما وعدنا ربّكم على ألسنتهم على الكفر به وعلى معاصيه من العقاب؟ فأجابهم أهل النار: بأنْ نعم، قد وجدنا ما وعد ربنا حقًّا"...[تفسير الطبري].
العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض) يقول حول هذا الحوار في تفسيره:
"{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ}. الآية توحي أنَّ هناك منطقةً يشرف فيها أهل الجنّة على أهل النّار، فيرون بعضهم بعضاً، ويسمع أحدهم الآخر... وربما كان بين هؤلاء وأولئك علاقة معرفةٍ أو قرابةٍ أو جوار في الدّنيا، وربما كان بينهم هناك حوارٌ في قضايا الإيمان والكفر وما يؤدّيان إليه من جنّة أو نار.
وكان الكفّار ينكرون ذلك كلّه ويسخرون باليوم الآخر، بينما كان المؤمنون يؤكّدون ذلك، ويخوّفونهم ويحذّرونهم من نتائج أعمالهم... ومرّت الأيّام، وها هم يلتقون في الدار الآخرة، ولكلٍّ موقعه في الجنة أو النار، ويطَّلع أهل الجنّة على أهل النار ويسألونهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}، فها نحن نتقلّب في نعيم الجنة ورضوان الله، كما وعدنا الله من خلال رسله؛ {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} في ما توعّدكم به من عذاب النّار جزاءَ كفركم؛ فها أنتم تجدون أنفسكم في النّار كما وعدكم رسل الله؟!
وهو سؤال للإنكار أو للتقرير، لا للاستفهام. {قَالُواْ نَعَمْ} في خشوع وذلةٍ واستكانةٍ، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وقد لا يكون للحديث عن هذا المؤمن باسمه أثر كبيرٌ في الأجواء الّتي تثيرها الآية، فلا نريد أن ندخل في ما دخل فيه المفسِّرون من خلافٍ حول ذلك، لأنَّ الظاهر هو التّركيز على الفكرة الموحية بإبعاد الله لهؤلاء الظّالمين عن رحمته في ما تمثّله اللّعنة من هذا المعنى.
وتأتي الآية الثانية لتوضح المقصود من هذه الكلمة: "الظَّالِمِينَ"؛ فليس المراد بها الظلم في الاعتداء على حقوق الناس، بل المراد بها الاعتداء على حقوق الله في العقيدة الحقّة والنهج المستقيم، مما يعتبر ظلماً للنّفس من جهة، وظلماً لله من جهةٍ أخرى". [تفسير من وحي القرآن، ج 10].
العلامة الشّيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) يشير إلى المعنى المحصَّل من الآية المباركة، وإلى أوصاف الظالمين، يقول:
"إنّ أصحاب الجنّة على علم اليقين بأنّ أصحاب النّار قد وجدوا صدق الوعيد والتّهديد، ولكنّهم وجهوا إليهم هذا السّؤال شكراً لله على ما أنعم عليهم، وتقريعاً لأهل النار على كفرهم وعنادهم، وتذكيراً لهم بما كانوا يقولونه من الهزء والاستخفاف بدين الحقّ وأهله. {قَالُواْ نَعَمْ}، حيث لا وسيلة للإنكار {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، بهذه اللّعنة يرفع المؤذّن صوته يوم القيامة واصفاً الظّالمين بثلاثة أوصاف:
1- {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، أي يمنعون الناس من اتّباع الحقّ بشتّى الوسائل.
2- {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}، لا يريدون الصّدق والإخلاص والاستقامة، وإنما يريدون الكذب والنّفاق والخيانة.
3- {وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، فلا يخافون حساباً ولا عقاباً على جرائمهم وآثامهم". [تفسير الكاشف، ج 3].
بعد الّذي تقدَّم، ماذا علينا أن نستفيد من أجواء هذا الحوار؟ علينا التنبّه لمصيرنا، وألا نكون من الظّالمين الملعونين يوم القيامة ممن يصدّون عن سبيل الله، وممن لا يسلكون منهج الصّدق والإخلاص في النيّة والعمل، وممن يكفرون بالحساب والعقاب، فيتعدّون حدود الله ويخالفونه.
المجتمع الإيماني هو مجتمع أهل الجنَّة الذين يتعوَّدون في دنياهم على أخلاق أهل الجنَّة، بمشاعرهم الطيّبة الرّحيمة، وبنصرتهم للحقّ وأهله، ووقوفهم في وجه الباطل وأهله.
فلنتحرَّر من كلّ أهوائنا وحساباتنا الضيّقة، ولنتربَّ على أخلاق أهل الجنّة، حتى نكون منهم يوم لا ينفع سوى التَّقوى والعمل الصَّالح.
محمد عبدالله فضل الله