المراد بمثل الجنة صفتها، والمعنى ان اللَّه أخبر عباده أن من أوصاف الجنة، فيها أنهار من ماء باق على أصله وحقيقته لم يغيره شيء (وأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ولا لونه ولا رائحته (وأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) تلذ في الفم ولا تذهب بالعقل (وأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من الشمع وغيره ( ولَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) ومنها ما لا يعرفون لها نظيرا في الدنيا. وفي بعض كتب الصوفية ان المراد بالماء هنا العلم، وباللبن العمل، وبالخمر لذة المحبة، وبالعسل حلاوة المعرفة والقرب من اللَّه.
وسبق منا أكثر من مرة ان كل ما جاء في كتاب اللَّه وجب العمل بظاهره حتى يثبت العكس من النقل أو العقل، والعقل لا يأبى شيئا من أوصاف الجنة التي دل عليها ظاهر الآيات فوجب الأخذ به وابقاؤه على حقيقته ودلالته.
وتسأل: ان اللَّه سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه ان أهل الجنة يتنعمون فيها بلذة معنوية لا حسية، كحب اللَّه لهم، ومرضاته عنهم، وارتفاع شأنهم عنده، من ذلك قوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [آخر القمر]. وقوله:
﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا﴾ [مريم-96]. فما هو وجه الجمع بين ما دل من الآيات على ان نعيم الجنة يكون باللذة الحسية وما دل منها على انه يكون باللذة المعنوية ؟.
الجواب: لا مانع من الجمع بين اللذتين والعمل بالدلالتين.. فأهل الجنة يتنعمون بحب اللَّه وبعلو الشأن عنده، وأيضا يتنعمون بالطيبات من المآكل والمشارب. قال الملا صدرا في الأسفار: «أما الجنة فهي كما دل عليه الكتاب والسنّة مطابقا للبرهان... فلا موت فيها ولا هرم ولا غم ولا سقم ولا دثور ولا زوال، وهي دار المقامة والكرامة لا يمس أهلها نصب ولا لغوب، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، وأهلها جيران اللَّه وأولياؤه وأحباؤه، وأهل كرامته، وانهم على مراتب متفاضلة، منهم المتنعمون بالتسبيح والتكبير، ومنهم المتنعمون باللذات المحسوسة كأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك والحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النمارق والزرابي ولبس السندس والحرير والإستبرق، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت به همته».
(ومَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الذين يتنعمون بملذات الدنيا وشهواتها يحاسبون عليها حسابا عسيرا: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون-56]. أما أهل الجنة فإنهم يتقلبون في نعيمها وهم في أمن وأمان من حساب اللَّه وعقابه (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). في الكلام حذف دل عليه السياق، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون (وسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). كيف يستوون، وأصحاب الجنة يشربون الماء العذب واللبن والخمر والعسل المصفى، وأصحاب النار يشربون حميما وصديدا يغلي في البطون؟
تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية