ومن جهة أخرى لا بد وأن يكون على رأسهم من يكون قوياً في ذات الله، ليعينهم على ما هم مقدمون عليه في تلك البلاد الغريبة، ويكون رسولا داعياً إلى هذا الدين الجديد ومبشراً بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بينهم، ذلك أن الإسلام ليس خاصا بقريش أو بالعرب، وإنما هو لجميع الناس مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم أو اعتقاداتهم، ولذلك كان على رأس المهاجرين جعفر بن أبي طالب وأمثاله، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه"، وكانت الهجرة الأولى.
ولا يخفى ما في هذه الكلمة المباركة منه (صلى الله عليه وآله) من اعجاز، واثبات جديد لهم على صدقه (صلى الله عليه وآله)، في نبوته، وهم في غنى عنها كما لا يخفى، إلا أنها تشكل قرينة زائدة لهم، ودفعاً قوياً على مستوى نفوسهم، كما أنها تدل دلالة واقعية على نبوته (صلى الله عليه وآله) عند النجاشي وأتباعه، وتؤدي إلى اطمئنان نفوسهم بدعوته، إذ من أهم الأمور التي ينتظرها أي ملك من الملوك، هي وصفه بالعدل والصدق، خصوصاً إذا جاءت عن طريق الغيب الذي يؤمن به الملك، الذي يتبع النصرانية، مع أنه لم يكن على سابق معرفة بالنبي (صلى الله عليه وآله) ولا بدعوته.
لماذا الحبشة؟!
أما لماذا اختار رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرة أصحابه إلى الحبشة بالخصوص، ولم يرسلهم إلى إحدى البلاد أو القبائل العربية أو غيرها من البقاع، فهو يرجع إلى عدة أسباب، نذكر منها:
ألف ـ لأن القبائل العربية لم تبد أي تفاعل مع الدعوة الجديدة، بل هي قد ناصبتها العداء، إما لأنها رأت فيها خطرا على آلهتها ومقدساتها، وبالتالي على مصالحها، كما هو الحال عند قريش، وإما تزلفا لقريش التي كانت تمسك بإدارة الكعبة، والتي يرون أنها ربما تحرمهم من زيارتها، والإفادة من مقامها التي شرفها الله تعالى بها، إن هم أبدوا أي تقبل أو رغبة أو رأي أو تعاطف مع الدين الجديد، وهو أمر لا يطيقون تحمله.
باء ـ لأن الحبشة بعيدة نسبياً عن سلطان قريش، وهي لا ترى حاجة في نفسها إلى الكعبة، إذ لم تكن مزاراً لهم، ولا هي مهوى أفئدتهم.
يضاف إلى ذلك أنها مملكة تتمتع باستقرار سياسي واجتماعي، وبالتالي فإن جارهم مأمون الجانب، لا يخشى على سلامته، خصوصا وأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرح لهم بأن ملكها لا يظلم عنده أحد.
جيم ـ أن أهل الحبشة من أتباع الديانة النصرانية، ولم يعانوا من أزمات وحروب مع جيرانهم كما هو الحال مع البيزنطيين، الذين كانوا في حالة عداء وحرب مع الفرس، وبالتالي فإن أهل الحبشة سيكونون أقدر الناس على التفاعل مع الدين الجديد، وإدراك خصائصه، خصوصا فيما يتعلق بالسيد المسيح (عليه السلام) وبسائر الأنبياء عموما، إذ هم لا يتصورون أن يعرف رجل من الجزيرة العربية، ومن قريش بالخصوص، أخبار الوحي القديم وتعاليمه وأحكامه، وكثيراً مما يتعلق بالسيد المسيح وأمه العذراء، وأنه سيأتي ببرهان براءتها، وكرامة ابنها المسيح، إلا إذا كان ذلك عبر الاتصال بالوحي والنبوة.
وهذا ما حصل بالفعل عندما لحق بهم عمرو بن العاص، على رأس وفد من قريش إلى نجاشي الحبشة ملتمسا تسليمه المسلمين، وذكر له أنهم يقولون كلاما في المسيح وأمه، محاولا إثارته ضدهم، فما كان من النجاشي لما سمع بعض الآيات القرآنية من سورة مريم، إلا أن أطلقهم في بلاده، قائلا لهم بعدما رسم خطا على الأرض "والله ما بين ديننا ودينكم أكثر من هذا الخط"، ورجع وفد قريش بالخيبة والخسران.
فكان إرسالهم إلى الحبشة بداية اتصالهم بأهل الكتاب، ومحاولة الاستفادة من شهادتهم بإلهية الدين الجديد، وهو ما حصل بالفعل مما يفتح آفاقا جديدة للدعوة الإسلامية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق لو أنه أرسلهم إلى إحدى القبائل العربية.
دال ـ إن الحبشة لم تكن تحت سلطة البيزنطيين، وبالتالي فإن تأثير الكنيسة الرسمية عليها كان ضعيفاً، على اعتبار أنها، وبحكم اتصالها الجغرافي بكنيسة الإسكندرية، كانت بعيدة نسبياً عن فكرة التثليث، نتيجة تأثير حركة أسقف الإسكندرية - آريوس - التوحيدية، والتي كانت تنادي ببشرية السيد المسيح (عليه السلام)، وهذا يجعلها حاضرة لتقبل الدعوة الإسلامية التوحيدية، أكثر من الكنيسة الرسمية، التي يشكل الإعتقاد بالثالوث أهم أركانها وأسسها، وهذا لا يعني أن كنيسة الإسكندرية كانت توحيدية بالمعنى الحرفي للكلمة، وانما كانت متأثرة بالعقائد التوحيدية إلى حد بعيد، وعلى أقل التقادير لم يكن التوحيد بعيداً عن مرتكزاتها الذهنية ولو على مستوى النظرية، والإستئناس بآراء آريوس، كما هو ظاهر.
هاء ـ كما أنه لم يكن من الممكن ولا من الحكمة أن يرسلهم إلى بلاد الروم أو الفرس أو اليمن، لما تقدم من أنه يمكن أن يستفيد القرشيون من هذا اللجوء، ويعتبرون الفرصة سانحة للانقضاض عليهم ويضغطوا على الجهة المقصودة نتيجة نفوذهم الاقتصادي، الناشئ من علاقتهم التجارية معهما، والتي تجلت برحلتي الشتاء والصيف، لأن اليمن التي كان إحدى الرحلتين إليها واقعة تحت النفوذ الفارسي، وكانت الرحلة الأخرى إلى الشام الوقعة تحت سلطة الروم.
فالهجرة إلى أي منهما سوف لن تؤتي ثمارها الرسالية المرجوة، إضافة إلى إمكان نجاح قريش في استرجاعهم والقضاء عليهم بسهولة، أو من غير المعلوم أن تتوقف آثارها السلبية إلى مركز الرسالة والدعوة، مما يشكل سببا مبرراً عند الكثيرين في إعادة محاولات تهديم الكعبة، ونزع هذا الشرف من قبائل العرب بالمرة، خصوصا وأن الروم من القائلين بثلاثية أقانيم الذات الإلهية، كما أشرنا إليه، وهو ما ينافي العقيدة الإسلامية في ذات الله تعالى وفي طبيعة السيد المسيح (عليه السلام)، الأمر الذي يعقد على المسلمين دعوتهم التوحيدية.
وأما بلاد فارس فكانت تشكل محور العقيدة الوثنية، وهو ما يقربها من عقيدة القبائل العربية، وقريش منها، وهو ما يناقض عقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام.
إن كل ما تقدم، يدل على أن مصلحة كل من دولتي الروم والفرس في القضاء على الدعوة الجديدة، وانهاء مفاعيلها، وهو ما يشكل حافزا قويا لدى كل من المملكتين على التوافق مع قريش في محاربتها للمسلمين، بل ستسلط الأضواء عليهم من أكثر من جهة وفئة، سواء توافقت مع قريش في السبب الباعث على محاربتهم أو لم تتوافق، ولكنه يجمعهم معها، على كل حال، الاحساس بالخطر الداهم عليهم من قبل الدين الجديد، وان كان كل منهم ينظر إليه من زاويته الخاصة، وبالتالي ستكون ثمار الهجرة مكسية وسلبية خلافا لما يرتجى منها.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل