وحاول الإمام الرازي الإجابة عن ذلك، بأنّه من المحتمل أنّ والد إبراهيم كان مسمّىً باسمين، فلعلّ اسمه الأصلي آزر، وجعل تارَح لقباً له، فاشتهر هذا اللّقب وخَفي الاسم، والقرآن ذكره بالاسم.
ويتأيّدُ هذا الاحتمال بأنَّ (تارَح) بالعِبريّة يُعطي معنى الكسول المتقاعس في العمل. أمّا (آزر)، فهو النّشيط في العمل؛ لأنّه من (الأَزر)، بمعنى القوّة والنصر والعون. ومنه (الوزير)، أي المُعين، قال تعالى حكايةً عن موسى بشأن هارون: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: 31]، وهذا المعنى قريب في اللّغات الساميّة، ومن ذلك، عازر وعُزير في العِبريّة، وجاءت المادّة بالمعنى نفسه في العربيّة، قال الله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾ [الأعراف: 157]، ومعلوم أنّ العين والهمزة يتعاوران في اللغتين العِبريّة والعربيّة.
فلعلّ اسمه الأصلي كان (آزر) بمعنى النّشيط، لكنّهم رأوا منه كسلاً وفشلاً في العمل والهمّة فلقبّوه بتارح، وكما اشتهر نبيّ الله يعقوب بلقب (إسرائيل). أمّا مفسّرو الشيعة الإماميّة، فيَرونَ أنّ (آزر) هذا لم يكن والد نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، وإنْ كان إبراهيم يدعوه أباً؛ لأنّ (الأب) أعمّ من الوالد، فيُطلق على الجدّ للأُمّ، وعلى المربّي والمعلّم والمرشد، وعلى العمّ أيضاً، حيث جاء إطلاق الأب عليه في القرآن، فقد حكى الله على أولاد يعقوب قولهم: ﴿نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ [البقرة: 133]، وإسماعيل كان عمّاً ليعقوب .
قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: والذي قاله الزجّاج يُقوّي ما قاله أصحابُنا: أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأُمّه، أو كان عمّه؛ لأنّ أباه كان مؤمناً، لأنّه قد ثبت عندهم أنّ آباء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى آدم كلّهم، كانوا مُوحّدين لم يكن فيهم كافر، ولا خلاف بين أصحابنا في هذه المسألة .
قال: وأيضاً رُوي عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "نَقَلني اللهُ مِن أصلابِ الطّاهرينَ إلى أَرحامِ الطّاهراتِ، لمْ يُدنّسني بِدَنسِ الجاهليّةِ".
وهذا خبر لا خلاف في صحّته، فبيّنَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ الله نقله من أصلاب الطّاهرينَ، فلو كان فيهم كافر، لما جاز وصْفُهم بأنّهم طاهرون؛ لأنّ الله وَصف المشركينَ بأنّهم أنجاس: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة: 28)، قال: ولهم في ذلك أدلَّة لا نطوّلُ بذكرها الكتابَ؛ لئلاّ يخرج عن الغرض.
وللإمام الرازي هنا بحث طويل، وحُجج أقامها دعماً لما يقوله مُفسِّرو الشيعة، وأخيراً يقول: فثبت بهذه الوجوه أنّ (آزر) ما كان والد إبراهيم (عليه السلام)، بل كان عمّاً له، والعمّ قد يُسمّى بالأب، كما سمّى أولادُ يعقوب إسماعيلَ أباً ليعقوب، وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بشأن عمّه العباس حين أُسِر: "ردّوا عليَّ أبي".
قال: وأيضاً يُحتمل أنّ (آزر) كان والد أُمّ إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، والدّليل عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: 84] - إلى قوله - ﴿وَعِيسَى﴾ [الأنعام: 85]، فجعل عيسى من ذرّية إبراهيم، مع أنّه (عليه السلام) كان جدّاً لعيسى من قبل الأُمّ.
ولسيّدنا الطباطبائي تحقيق بهذا الشّأن، استظهر من القرآن ذاته أنَّ (آزر) الذي خاطبه إبراهيم بالأُبوَّة، وجاء ذلك في كثير من الآيات، لم يكن والده قطعيّاً.
وذلك أنّ إبراهيم في بداية أمره حين كان بين أَظهُر قومِه من أرض كِلدان، وكان تحت كفالة آزر، وقد حاجّ قومه وحاجّ أَباه كثيراً، وفي فترات ومناسبات مؤاتية، وكان أبوه آزر يطارده ويؤنّبُه على جُرأته على آلهة قومه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّ﴾ [مريم: 41 – 47].
فإبراهيم هنا قد وَعَد أباه أنْ يستغفرَ له، وبالفعل وَفى بِوعده: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 83 – 86].
لكن سُرعان ما رجع عمّا كان قد رجا في أبيه خيراً، ومِن ثَمّ تبرّأ منه حين لم يرجُ فيه الصلاح ويئِس منه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].
هذا في بداية أمره، قبل مغادرة بلادِه وقومِه قاصداً البلاد المقدّسة، والدليل على ذلك، أنّه يبدأ الدعاء بقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ... ﴾. وبعد ذلك، يأتي دورُ مغادرتِه إلى الأرض المقدَّسة، ويبتهل إلى الله أن يرزقَه أولاداً صالحين.
﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 98 – 100).
وهنا يُجيب الله دعاءه: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 71، 72].
ثمّ إنّه لمّا كَبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام، نراه يدعو لوالديه ويستغفر لهما: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] إلى قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 41].
قال العلاّمة الطباطبائي: والآية بما لها من السياق والقرائن المُحتفّة بها، خير شاهدةٍ على أنّ والدَهُ الذي دعا له واستغفر له هنا، غير أبيه آزر الذي تبرّأ منه في سالف الأيّام، فقد تحصّل أنّ آزر الذي جاء ذِكره في تلك الآيات، لم يكنْ والد إبراهيم ولا أباه الحقيقي، وإنّما صحّ إطلاق الأب عليه لوجود عناوين تسوّغ اللّغة، مثل هذا الإطلاق كالجدّ للأمّ والعمّ، وزوج الأُمّ، وكلّ مَن يتولّى شأن صغير، وكذا كلّ كبير مُطاع، ونحو ذلك، وليس مثل هذا التوسّع في إطلاق لفظ الأب مختصّاً بلغة العرب، بل هو جارٍ في سائر اللّغات أيضاً.
الشّيخ محمد هادي معرفة - شبهات وردود حول القرآن الكريم.