الآية المباركة تتحدَّث ظاهرًا عن أنَّ الله تعالى قد ألقى على كرسيِّ سليمان جسدًا وكان في ذلك امتحانٌ لسليمان واختبارٌ له، ويظهرُ من التعبير "بفتنَّا" أنَّ هذا الاختبار وهذا الإبتلاء المُشار إليه في الآية كان بليغًا ومن شأنه أنْ يبعثَ على الجزع أو الافتتان إلا أنَّ سليمان (ع) استقبل ذلك بقلبٍ صابر وآبَ إلى ربِّه مسلِّمًا راضيًا بقضائه وقدره.
وقد اختلفت الأنظار والنقولات في بيان طبيعة هذا البلاء ونوعه، والأوفقُ منها بظاهر الآية أنَّ الله تعالى منح سليمان ولدًا فكان شديد التعلُّق به فكان يخشى عليه أنْ يموت فيفتجع بفقده أو كان يخشى عليه من سطوات الأشرار الذين لا يريدون أنْ يكون لسليمان ولد فيرث سلطانه، فلعلَّ هذا ما دفعه إلى تغييبه عن أنظارهم والمبالغة في حمايته، فأراد الله تعالى أنْ يمتحنَ سليمان في صبره على فقد أعزِّ ما عنده ويمتحن مقدار تسليمه لقضاء الله ورضاه بقدره، فدون سابق إنذارٍ وجد ولده جثَّةً هامدة مُلقاةً على كرسيِّ ملكِه، فهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ فهو بمعنى ابتلينا وامتحنَّا صبرَ سليمان وذلك بقبض روح ولده والذي كان يُشفقُ عليه من الموت ويحرصُ على بقائه، فرغم أنَّ هذا البلاء من شأنه أنْ يبعثَ عند سائر الناس على الجزع والسخط لكنَّه لم يترك هذا الأثر في نفس سليمان (ع) بل كان تأثير هذا البلاء هو أنَّه قاد نبيَّ الله سليمان (ع) إلى المراجعة والإلتفات إلى أنَّ هذا النحو من التعلُّق ليس محمودَ العواقب، فقد يُفضي بالإنسان إلى أنْ يُشفِقَ من قضاء الله فلا تكون إرادتُه ورغبتُه واقعةً في سياق إرادة الله تعالى لذلك آبَ إلى ربِّه واستغفر. فهو لم يسلِّم بقضاء الله وقدره فحسب بل إنَّ هذا البلاء قد قادَه إلى الالتفات إلى أنَّ ما كان عليه من التعلُّق الشديد بولدِه لم يكن ممَّا ينبغي لمثله الوقوع فيه، وهذا هو منشأ استغفاره وأوبتِه، فإنَّ الأنبياء يستغفرون الله تعالى من مخالفة الأولى.
هذا وقد قيل في تفسير الآية أنَّ المُلقى على كرسيِّ سليمان (ع) هو سليمان نفسُه، فقد ابتلاه الله تعالى بمرضٍ عضال أقعده عن الحركة فصيَّره مطروحًا على كرسيِّه كأنَّه جسد بلا روح، فمفاد الآية بناء على هذا التفسير هو أنَّه قد فتنَّا وامتحنَّا سليمان بمرضٍ عضال فألقيناه على كرسيه جسدًا ذاويًا لا حراك له كأنَّه بلا روح لشدَّة ما أصابه من الوهن والضعف، فقوله تعالى: "جسدا" حال منصوب أي هو بيان لحال سليمان، فالعرب تصف حال الإنسان إذا انتابه الضعف الشديد والإعياء بأنَّه لحم على وضَم وجسد بلا روح تشبيهًا له بالميِّت.
لكنَّ هذا التفسير للآية مخالفٌ لمقتضى الظاهر منها، إذ لو كان هو المراد لكان المناسب هو القول "ألقيناه" فإنَّ حذف الضمير العائد على سليمان بلا موجبٍ ظاهر بل هو مستلزم للتشويش على ما هو المدَّعى من المعنى المقصود، إذ أنَّ احتمال إرادة غير سليمان -من المفعول للفعل ألقينا- يظلُّ قائمًا، وبه لا تكون الآية قد أدَّت المعنى المُراد بالنحو الذي يتَّسق مع صياغتها وهذا لا يتناسب مع كون القرآن في أعلى درجات الفصاحة، فالصحيحُ أنَّ المفعول به للفعل "ألقينا" هو الجسد فإنَّ ذلك هو المعنى المتبادر من الآية وهو المتناسب مع صياغتها، فالآيةُ تحكي عن أنَّ الله تعالى قد ألقى جسدًا أي جثةً على كرسيِّ سليمان، وهذا الجسد الميِّت الذي ألقاه اللهُ على كرسيِّه هو ما فتَن اللهُ به سليمان وامتحنَه به.
فالمعنى المتناسب مع ظاهر الآية هو ما قيل من أنَّ سليمان الذي كان شديد التعلُّق بولده وكان يُحاذر عليه من الآفات والأخطار قد وجده دون سابق إنذارٍ مُلقىً على كرسيِّ ملكه ميِّتًا، فانتابه لذلك حزنٌ عميق لكنَّه ما لبث أنْ عاد فتجمَّل بالصبر واحتسب واسترجع وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾".
هذا وقد تناقلت العديد من كتبُ التفسير والحديث أخبارًا تحدَّثت عن بيان المراد من الآية هي أشبه بالإسرائيليات التي تسرَّبت للتراث الإسلامي، على أنَّ أكثر هذه النقولات التي تحدَّثت عن بيان المراد من الآية لا تستقيم مع مقامات الأنبياء وعصمتهم.
فمن ذلك ما رُوي عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: "ولد لسليمان ابن فقال للشياطين: أين أُداريه من الموت؟ قالوا: يذهب به إلى تخوم الأرض. قال: يصل إليه الموت. قالوا: قعر البحر. قال: يصل إليه الموت. قالوا: يذهب به إلى الغرب. قال: يصل إليه الموت. قالوا: فإلى الشرق. قال: يصل إليه الموت. قالوا: فنصعد به بين السماء والأرض. قال: نعم. قال: فصعدوا به، ونزل ملك الموت فقال: يابن داود إنِّي أمرت بقبض النسمة، وطلبتها في البحر فلم أصبها، وطلبتها في الأرض فلم أُصبها، وطلبتُها في الشرق والغرب فلم أُصبها، فبينا أنا أصعد إلى السماء أصبتُها فقبضتُها. قال: وجاء جسده حتى وقع على كرسيِّه، وذلك قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾".
فهذه الرواية مضافًا إلى ضعف سندها حتى على مباني العامَّة فإنَّ مقتضاها أنَّ سليمان (ع) كان يجهل بأنَّ الله تعالى قادرٌ على قبض روح الإنسان أيًّا كان موضعُه، وهذا المستوى من الجهل لا يليقُ بمؤمنٍ من سائر الناس فضلًا عن نبيٍّ من أنبياء الله تعالى. ثم إنَّه لو قيل إنَّ سليمان أراد من تغييب ولده حمايته من الأشرار والآفات لأمكن تعقُّل ذلك أمَّا أنْ يُريد بذلك حمايته من نزول الموت به فيبحث عن موضعٍ لا يصلُ إليه الموت فهذا لا يصدر عن عاقلٍ يُدرك أنَّ الموت لا ينتظر بمَن قُضي عليه أنْ يكون في موضعٍ دون موضع.
ومن الأخبار في ذلك أنَّ الله تعالى قد ابتلى سليمان فسلبه ملكه ونبوَّته أربعين يومًا، وقصةُ ذلك موجزًا - بحسب ما أوردته العديدُ من كتب الأخبار والتفسير- أنَّ سليمان أراد يومًا الدخول إلى الخلاء وكان من عادته خلع خاتمه قبل الدخول لاشتمال نقشه على اسم الجلالة، فهو قد خلع خاتمه وسلَّمه لإحدى نسائه، فجاء شيطانٌ من الشياطين فتمثَّل لزوجته في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فأخذه فلمَّا لبسه دانت له الجنُّ والإنس وجلس على كرسيِّ سليمان وأخذ يُدير مملكته ويقضي بين الناس بزعم أنَّه سليمان، فلم يتفطَّن له أحد حتى أنَّه -بحسب بعض الروايات- كان يأتي زوجات سليمان، فلمَّا وجد بعضُ وزراء سليمان تغيُّرًا في إدارة الحكم سألوا نساء سليمان هل يأتيهن فقلنَ نعم حتى وهنَّ حُيَّض!! فتفطَّنوا من ذلك أنَّ هذا منتحلٌ لشخصيَّة سليمان، فحين شعر هذا الشيطان أنَّهم قد تفطَّنوا له وافتضح أمرُه رمى بخاتم سليمان في البحر.
وأمَّا سليمان فبعد خروجه من الخلاء لم يُصِّدقه أحد أنَّه سليمان حتى زوجاته، فخرج من داره وصار لا يُخبر أحدًا بأنَّه سليمان إلا كذَّبه وحتى الصبيان صاروا يقذفونه بالحجارة، فلمَّا رآى ذلك عرف أنَّه بلاءٌ من الله قد وقع عليه، لذلك رضي واحتسب وصار يتكسَّب لقوت يومه، فكان يعمل قريبًا من شاطئ البحر فاشترى يومًا سمكةً أو كانت هي أجرة عمله، فلمَّا فتح بطنَها وجد فيها خاتمَه فلبسه وعاد إليه ملُكه كما كان وهرب الشيطان فتمكَّن جنودُ سليمان من الإمساك به. وثمة تفاصايل أخرى للقصَّة لم أجد موجبًا لعرضها.
وهي كما تلاحظون أشبهُ شيءٍ بالأساطير التي يروقُ للقصَّاصين نسجها من مخيَّلتهم غير عابئين ولا متأثِّمين، وهي مع ذلك مستلزمة لمحاذيرَ مناقضةٍ لأصول العقيدة كاستلزامها التجويز على الله تعالى بأنْ يمكِّن الشيطان من التمثُّل في صورة النبيِّ فيُضلَّ بذلك العباد، ولو أمكن وقوع ذلك لأنهدم أساسُ الدين ولانعدم الوثوقُ بالرسالات.
هذا مضافًا إلى شناعتها حيث اشتملتْ على دعوى مقارفة الشيطان للفجور بنساء نبيِّ الله سليمان (ع) وهي كذلك تقتضي القبول بما لا يقبله عاقل، إذ كيف يقوم مُلكٌ عريض بخاتمٍ يضعُه أحدُهم في يده فإذا فقده زال عنه مُلكُه فإذا وجده فلبسه عاد إليه ملكُه وانقادت له به جنودُه من الجنِّ والإنس، وإذا اتَّفق أنْ سرقه سارقٌ فلبسه تحوَّل الملك منه إليه وانقادت له بذلك الخاتم الجنُّ والإنس؟! والأغرب الذي لا يجوز في الدين قبوله هو ما اشتملت عليه بعض هذه النقولات من أَّن سليمان لم يفقد بضياع الخاتم مُلكه فحسب بل فقد نبوَّته وعادت إليه النبوَّة بعودة الخاتم إلى إصبعه، وكأنَّ نبوَّة سليمان -والتي هي منصبٌّ إلهي ومَلَكةٌ روحيَّة- كانت في خاتمه!!
ومن الأخبار في ذلك ما أورده البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهنَّ يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: قل إنْ شاء الله فلم يقل: إنْ شاء الله، فلم يحمل منهنَّ إلا امرأة واحدة جاءت بشقِّ رجل، والذي نفس محمدٍ بيده لو قال إنْ شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون".
قيل فالمراد بقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا﴾ هو هذا، والجسد المُلقى هو المولود شقَّ رجل.
وهذه الرواية وإنْ لم تكن منافيةً لعصمة الأنبياء فإنَّ سليمان(ع) وإنْ لم يكن قد علَّق عزمَه على المشيئة لكنَّه لا يُنكِر ذلك قطعًا ولا يعتقد بخلافه، لأنَّ الاعتقاد بالاستغناء عن المشئية ليس منافيًا للعصمة وحسب بل هو منافٍ للإيمان وهو ما لا يصدر عن مؤمنٍ فضلاً عن نبيٍّ من الأنبياء، فما وقع من سليمان إذن لم يكن أكثر من المخالفة للأولى حيث لم يتلفَّظ بالتعليق على المشيئة لكنَّ التعليق كان مقصودًا له حتمًا بمقتضى إيمانه، ويؤكِّد ذلك تصريحه بأنَّ غايته من فعل ما عزم عليه إنَّما هو الجهاد في سبيل الله تعالى، فمفاد الرواية - مع افتراض صحتها - لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء لكنَّها رغم ذلك غير قابلةٍ للتصديق فإنَّ المعاشرة لهذا العدد من النساء أو ما يقربُ منه في ليلةٍ واحدة أمرٌ تنوء دون القدرةِ على فعلِه أشدُّ الحيونات قوَّةً فضلًا عن الإنسان بل إنَّ عشرةً مجتمعة من أشدَّاء الحيوان لا تُطيق الاقتسام لهذا العدد في ليلةٍ واحدة فكيف بإنسانٍ أنْ يفعل ذلك منفردًا في ليلةٍ واحدة، وليس في الرواية ما يُشير إلى أنَّ ذلك قد صدر من سليمان (ع) على سبيل الإعجاز بل إنَّ لحن الرواية وسياقها مشعِرٌ بل ظاهرٌ في أنَّ ما فعله سليمان (ع) لم يكن على سبيل الإعجاز والكرامة كيف وهي متصدِّية لمعاتبته ولومه على مخالفته الأولى حيثُ لم يُعلِّق عزمَه على مشيئة الله تعالى.
هذا مضافًا إلى أنَّه من غير الممكن عادةً إنجاز مثل هذا الفعل في ليلةٍ واحدة، فلو فُرض أنَّ معاشرة كلِّ امرأةٍ من نسائه كان يستغرقُ من الوقت عشر دقائق مع احتساب الدخول عليها والخروج من عندها أو دخولها عليه وخروجها من عنده وكذلك سائر المقدِّمات وما يعقُب المعاشرة وافتراض اشتغاله بذلك في تمام الليلة فلم يذهب إلى الخلاء ولا اشتغل بتناول طعام، فلو فُرض أنَّ كلَّ معاشرةٍ تستغرقُ من الوقت عشر دقائق فإنَّه بحاجةٍ إلى أكثر من ستة عشر ساعة لإنجاز هذه المهمَّة، وليس ثمة من ليلٍ يطولُ لهذه المدَّة في تمام السنة، ثم ما هو الموجب للحرص على إنجاز هذه المهمَّة في ليلةٍ واحدة وهل سيؤثِّر إنجاز ذلك في ليلتين أو حتى شهرين على الغاية التي قصدها؟! فأيُّ فرقٍ في أعمار الفرسان لو كان بينهم شهرًا أوشهرين أو ثلاثة؟! وهل يحرصُ عاقلٌ على فعل ما يشقُّ دون أنْ يكون لفعله تأثيرٌ في النتيجة المقصودة؟! كلُّ ذلك وشبهه يمنع من الوثوق بصدور مثل هذه الرواية.
وثمة رواياتٌ وأخبارٌ أخرى غير ما ذكرناه يُعرفُ الشأن فيها ممَّا ذكرناه.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور