مثل عيسى عند الله كمثل آدم

الثلاثاء 25 ديسمبر 2018 - 07:14 بتوقيت غرينتش
مثل عيسى عند الله كمثل آدم

اسلاميات – الكوثر: قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ}[آل عمران: 59 – 60].

 

موقف النّاس من المألوف

 

إنَّ النّاس ـ في أغلب أحوالهم ـ يتعاملون مع المألوف في ما يقبلونه أو يرفضونه، فيعتبرونه القاعدة الأساس في إمكان الخلق واستحالته، فيقبلون ما يتّفق مع قوانينه وسننه، ويرفضون ما لا يتّفق معها. وعلى هذا الأساس، أنكر الكثيرون المعاد، لأنَّهم لم يألفوا أن يتحوّل التراب إلى عنصر حيّ، وأن يعود الإنسان إلى الحياة بعد أن تحوَّل إلى عظام نخرة. وذلك ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {أئذا متنا وكنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون}[المؤمنون: 82] {أوَآباؤنا الأوّلون}(الصافات: 17). ولكنَّ القرآن يريد أن يوجِّههم إلى ضرورة التعامل مع الأشياء من خلال القاعدة التي تحكمها وترتكز عليها في ضوء المنهج العقلي الذي يوحّد بين النظائر والأمثال في قضيّة الإمكان إذا كان الأساس الذي ترجع إليه واحداً... ففي قضيّة المعاد، جاءت الآية الكريمة التي تساوي بين الخلق والإعادة في قدرة الله، وذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 78-82].

 

عقليّة إيمانيّة

 

وهكذا أراد الله للإنسان أن يخرج من جوّ الألفة إلى جوّ التفكير، لأنَّ الإخلاد إلى المألوف يبعد الإنسان عن النفاذ إلى عمق الأشياء، ويربطه بالجانب السطحيّ منها، لتنطلق الحياة في أفكاره من موقع الفكر والتأمّل.

 

ولـمّا كانت قضية خلق عيسى (ع) من القضايا التي أثارت كثيراً من الجدل والدهشة، بادر قومٌ إلى إنكار ولادته من دون أب، فاتّهموا مريـم (ع) بالسوء والفحشاء، وحاول قومٌ أن يرفعوه إلى مرتبة الألوهيّة، فجاءت الآية لتقول لهؤلاء الذين استغربوا ذلك، إنَّ ارتباط تفكيركم بطريقة خلقكم من خلال عمليّة التناسل الطبيعية، أبعدكم ـ كمؤمنين بالله ـ عن خلق آدم الذي ترجعون إليه في النسب، فإنَّه انطلق بقدرة الله بشكلٍ مباشر. فكيف تـمّ خلقه، وكيف أمكن أن يتحقَّق بغير الطريقة الطبيعيّة؟ هل هناك شيء غير قدرة الخالق سبحانه؟ فإذا كانت القدرة هي السبب في خلق إنسان بلا أب وأمّ، فكيف تستبعدون أن تتحرّك القدرة في خلق إنسان بلا أب؟ فكلّما كان الخلق الأول ناشئاً من إرادة الله التي تمثِّلها كلمة «كن»، فكذلك خلق عيسى (ع)، حتّى خلق الإنسان بالشكل الطبيعي، فإذا ابتعدنا عن الألفة وتجرّدنا عن جوّها، فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه، كيف تـمّ ذلك؟ ومن الذي ربط بين السبب والمسبّب؟ وهل هناك إلاَّ قدرة الله التي أعطت السبب قوّة السببيّة في حركة الوجود؟

 

عيسى كآدم

 

وهذا ما جاءت به الآية الكريمة لتأكيده كحقيقة عقلية في الإمكان، إيمانية في الوقوع: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} في التدليل على قـدرة الله التـي لا يعجزها شيء، مهما تنوّعت خصائصه وأشكاله، {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ}، أي: آدم، {ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، من خلال ما تمثِّله الكلمة من معنى الإرادة في كلمة التكوين.

 

وهذه قاعدة عامَّة في التفكير الديني في ضوء المنهج العقلي، الذي يضع قدرة الله في الحساب، ويحرّك التفكير في هذا الاتجاه ليربط بين الأشياء كلّها من خلال ذلك. وهذا ما يجب أن تتركّز التربية الإيمانية عليه، لئلا يستسلم الإنسان إلى القضايا العاديّة في مشاهداته وتجاربه الحسيّة، فينكر كثيراً من قضايا الغيب من خلال استسلامه للحسّ.

 

ثُمَّ يؤكّد الله حركة الحقيقة في نفس الرّسول، فيؤكّد ثباتها لأنَّها مستمدة من الله خالق الأشياء، فلا يمكن أن يقترب إليها الريب، أو يطرأ عليها الشك: {الحقُّ من ربِّك} أي: هذا هو الحقّ من ربِّك، فهو مصدر الحقّ في كلّ مفرداته، لأنَّه مصدر الخلق كلّه والوجود كلّه، فكلّ شيء مربوب له، وكلّ شيء مكشوف عنده، {فَلا تَكُنْ مِنَ الممترين} أي الشاكين المتردّدين، لأنَّه لا معنى للشّكّ في ما أنزله الله من الحقّ في وحيه.

 

وتلك هي قصّة اليقين في الإيمان لدى المؤمنين، فليس بين المؤمن وبين أن يعيش اليقين في قلبه، إلاَّ أن يعرف أنَّ هذا هو الحقّ من عند الله، مهما أثار الآخرون أمامه من شكوك وشبهات... وهكذا أراد الله للمؤمنين ـ من خلال خطابه للنبيّ محمَّد (ص) ـ أن لا يكونوا من المرتابين في أمر عيسى (ع)، في ما حكاه اللّ عنه من آياته وبيّناته.

 

السيد محمد حسين فضل الله

*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج6.