والذي أراه، أن النبي لو كتب لهم عشرين كتاباً، سوف يحوّرون ويؤوّلون مضامينها بما يتفق مع مصالحهم، وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك، وهذا هو الذي دعا النبي إلى عدم الكتابة حيثما أفاق.
وجاء في "البداية والنهاية" عن الصحيحين، أن عائشة قالت: لقد اجتمع نساء النبي عنده في مرضه، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها، فقال: مرحباً يا بنتي، ثم أقعدها عن يمينه وسارّها بشيء فبكت، ثم سارّها ثانية فضحكت، فقلت لها: لقد خصّك بالسرار، وأنت تبكين تارة وتضحكين أخرى، فلما أن قامت، قلت لها: أخبريني بما قال لك.
قالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله، فلمّا توفي رسول الله، قلت لها: اسألك بما لي عليك من حقّ إلا أخبرتني، قالت فاطمة: أما الآن فنعم، لقد أخبرني أوّلاً باقتراب أجله، وأوصاني بتقوى الله والصبر فبكيت، وفي المرة الثانية قال لي: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت.
وقيل إنه قال لها في الثانية: أنت أول أهلي لحوقاً بي، فاستبشرت بلقاء الله والالتحاق بأبيها في دار الكرامة مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
وكان الألم يشتدّ برسول الله، والخطر على حياته يتزايد ساعةً بعد أخرى، ولكن ذلك كله لم يشغله أن يكرّر نداءه للناس المرة تلو المرة، بالخروج في بعث أسامة، والإسراع في إنفاذه، ويستحثّ أسامة على الإسراع في التوجه، حتى قال له أسامة: بأبي أنت وأمي، أتأذن لي أن أمكث أياماً حتى يشفيك الله؟ فلم يأذن له بالتأخير.
ولما اشتدَّت به وطأة المرض، جعل يأخذ الماء بيده ويقول: وا كرباه! فتقول فاطمة وا كرباً لكربك يا أبتاه، فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم.
وجاء في بعض المرويات، أنه قبيل وفاته، وجد نفسه نشيطاً، وخفت عنه حرارة الحمّى، فخرج معتمداً على عليّ (ع) والفضل بن العباس، حتى أتى المسجد، فأقبل على الناس رافعاً صوته، حتى سمعه من كان خارج المسجد، فقال: أيها الناس: سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون عليَّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن، ولم أحرّم إلا ما حرَّم القرآن، لعن الله قوماً اتخذوا قبورهم مساجد.
ورأى المسلمون في مظهر النبي ما يدعو الى الارتياح والاطمئنان، فاستأذنه أبو بكر بالذهاب إلى السنخ، حيث تقيم زوجته بنت خارجة، وانصرف عنه جماعة لشؤونهم، وهم يظنون أن في هذا النشاط الذي ظهر عليه تماثلاً للشفاء وتقدماً نحو العافية، ولكن أمر الله كان يجري إلى غايته من وراء ما يرجو الأصحاب والمحبون، وقد اختار له ربّه الدار الآخرة بين أخوته النبيين والمرسلين.
فما رجع من المسجد، حتى عاوده الضعف واشتدّ عليه، فسمع يقول: بل الرّفيق الأعلى، فعلموا أنه اختار لقاء الله على الحياة في هذه الدنيا.
وكان عليّ قد احتضنه حينما رآه يصارع الموت، ففاضت نفسه الشريفة وهو إلى صدر عليّ (ع)، كما جاء في رواية ابن سعد وغيره.
وروى الحاكم في المستدرك بسنده إلى أمّ سلمة أنها قالت: والذي أحلف به، أن عليّاً كان أقرب الناس عهداً برسول الله. ومضت تقول: عدنا رسول الله غداةً، وهو يقول: جاء عليّ جاء عليّ، يكرّرها مراراً، فقالت له فاطمة: كأنك بعثته في حاجة، فلما جاء، ظننت أنّ له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، وقعدنا عند الباب، وكنت من أدناهم إليه، فأكبّ عليه رسول الله، وجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض رسول الله من يومه ذلك، فكان عليّ أقرب الناس به عهداً.
وكانت وفاته يوم الإثنين، كما هو المشهور بين الرواة، وذهب أكثر الإمامية إلى أن وفاته كانت يوم الإثنين لليلتين بقيتا من صفر.
وقال الكليني إنه توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل، وقيل إنها كانت في اليوم الثاني منه، وقيل غير ذلك.
لقد اختار النبي الرفيق الأعلى على الخلود في هذه الدنيا التي امتلأت بالفتن والجور والطغيان، وعلى بقائه بين قوم جاءهم بكلّ ما يقربهم من الله ويصلح أمورهم، ويجمعهم على الإيمان بإله واحد وشريعة واحدة، ودعاهم إلى الجهاد والعدل ودفع الظلم والبغي، وإلى مكارم الأخلاق والرحمة والدفاع عن المستضعفين من الرّجال والنساء والولدان، ولكلّ ما يوفر لهم السعادة في دنياهم وآخرتهم، وظلّ أكثر من عشرين عاماً لم يذق خلالها طعم الراحة، يجاهد ويناضل لإرساء تلك القيم التي جاء من أجلها ودعا إليها، لتصبح إرثاً للأجيال في كل زمان ومكان، وفيما هو يكافح ويناضل من أجل مستقبل يزخر بكلّ معاني الخير والرحمة والمحبّة، وإذا بمستقبلهم القريب يتكشف لديه، فيراهم وقد ارتدّوا على أدبارهم، ورجعوا إلى جاهليّتهم الأولى، ولم ينج منهم إلا مثل همل النّعم، كما جاء في رواية البخاري وغيره من المحدثين.
لقد ناشدهم في مرضه، وهو يعاني من آلامه ما لا يطاق، أن يكتب لهم كتاباً حتى لا يضلوا من بعده، كما أجمعت على ذلك كتب الحديث والتّاريخ، فوصفوا كلامه هذا بالهذيان واللّغو، فيئس منهم، واختار الرفيق الأعلى مع إخوانه النبيين والمرسلين، ولفظ نفسه الأخير وهو على صدر عليّ (ع)، يناجيه، ويلقّنه من أسرار الكون وطبيعة الحياة والناس ألواناً من الأحداث والأزمات.
السيد هاشم معروف الحسني
*من كتاب "سيرة المصطفى (ص)".