ما المقصود من الآية الكريمة "إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال"؟!

الإثنين 5 نوفمبر 2018 - 05:45 بتوقيت غرينتش
ما المقصود من الآية الكريمة "إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال"؟!

مفاهيم قرآنية - الكوثر: يتحدَّث الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز عن جوّ تحريك الأفكار وأسلوب ذلك، بما يستثير قدرات الإنسان، ويطلق إدراكاته، ويحرر مشاعره، بغية وضعه على درب الحق، والنظر إلى الحقيقة بشكل هادئ وتلقائي، من دون استفزاز أو ممارسة أيّ ضغط فكري ودعائي يؤثّر في مجريات المناقشة والدعوة. قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24].

 

في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي مناقشة وتبيان لدلالات هذه الآية. قال:

"وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، تتمة قول النبيّ(ص)، وهذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة ووضوح الحقّ في مسألة الألوهية، مبنيّ على سلوك طريق الإنصاف، ومفاده أن كلّ قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفياً وإثباتاً. ونحن وأنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان، فإمّا أن نكون نحن على هدى وأنتم في ضلال، وإما أن تكونوا أنتم على هدى ونحن في ضلال، فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة، وميزوا المهديّ من الضالّ، والمحق من المبطل.

واختلاف التعبير في قوليه: {على هدى} و{في ضلال} بلفظة "على" و"في" - كما قيل - للإشارة إلى أنَّ المهتدي كأنّه مستعل على منار يتطلع على السبيل وغايتها التي فيها سعادته، والضالّ منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه وإلى أين يسير...". [تفسير الميزان، ج 16].

ويتابع المفسِّرون عرض مناقشة ما تحمله هذه الآية المباركة من معان، ففي تفسير القرطبي للآية المباركة، قال: "{وإنَّا أو إيَّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق، وأن صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادّين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن، والآخر ضالّ وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض. {أو إيّاكم} معطوف على اسم "إنّ" ولو عطف على الموضع، لكان "أو أنتم"، ويكون "لعلى هدى" للأوّل لا غير. وإذا قلت: "أو إيّاكم"، كان للثاني أولى، وحذفت من الأوّل أن يكون للأوّل، وهو اختيار المبرد. قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجّة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا {وإنَّا أو إيَّاكُم لعلَى هدًى أوْ في ضَلالٍ مبينٍ} . و"أو" عند البصريين على بابها وليست للشكّ، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا، إذا لم يرد المخبر أن يبيّن وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنّا على هدى وإيّاكم لفي ضلال مبين. [تفسير القرطبي].

من جهته، يشير العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) في تفسيره للآية، إلى "طرح القرآن الحضاري في أسلوب الدعوة والحوار القائم على الحياد الفكري، وخلق المناخات المؤاتية لوضع الطرف المقابل أمام الحقيقة من دون فرض أو إكراه، بل جعله يقبل على الحقيقة من تلقاء نفسه جرّاء ما يعرضه القرآن عليه من حقّ في مقابل ما يحمله الآخر من ضعف الحجّة والمعتقد ووهن الفكرة. قال: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين}، وهذا هو الأسلوب الإنساني الرائع في تحريك أجواء الحوار في خطّ الحياد الفكري، حيث يطلق المحاور المؤمن الفكرة في دائرة الاحتمال الذي يساوي بين فرضية الخطأ والصواب، أو الهدى والضلال، ليتقدم إلى الآخرين بروحية الباحث عن الحق في نطاق الفكرة، فيطرح المسألة في ساحة الشكّ، كما لو كان يعيش الاهتزاز الإيمانيّ، باحثاً عن الكلمات التي توضح له موقع الخطأ من موقع الصّواب الذي يلتزمه، أو يلتزمه الآخرون.

وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ حركة الحوار في الإسلام ترتكز على أساس القاعدة العلميّة التي ترى في الشكّ طريقاً إلى اليقين، وترفض القناعات القائمة على أساس إهمال الحوار وإغفال الفكر والإصرار على العناد، ما يجعل من الحوار الفكريّ حركةً إيجابيةً في الجواب عن علامات الاستفهام المنفتحة على كل آفاق الحرية في المعرفة، بما يثيره العقل من قضايا ومشاكل وآراء.

وقد جاءت هذه الآية لتؤكد هذه القاعدة الفكرية الحوارية التي تؤكد قاعدة «الشك في طريق اليقين»، فأكّدت أن الأسلوب العملي السليم هو الذي يعتمد على تفريغ الموقف من الأفكار المسبقة التي تحوّل الموقف إلى عقدةٍ تفرض نفسها على كلّ مواطن الحوار، وتشكِّل حاجزاً يمنع الأطراف من الشعور بحريّة الحركة في ما يقبلون ويرفضون، ويتمثّل ذلك في اعتبار الشكّ في الفكرة موقفاً مشتركاً بين الطرفين، يوحي لكلٍّ منهما بضرورة إعادة النظر في القضيّة، ومحاولة مواجهتها من جديد كما لو لم يواجهها من قبل، فليس هناك حكمٌ سابقٌ من أيٍّ من الطرفين على الخصم بالهدى أو بالضّلال، بل هو الموقف المشترك الذي يريد أن يصل إلى الحقيقة من خلال الحوار الإيجابي القائم على الوعي والشعور العميق بالحاجة إلى الوقوف مع خطّ الإيمان بالنتائج أيّاً كانت، وهذا ما تجسِّده هذه الآية، فقد نلاحظ أنّ النبيّ ـ كما علَّمه الله ـ لم يعط في أسلوبه هذا لنفسه صفة الهدى، ولم يدمغ خصمه بصفة الضلال، مع إيمانه العميق بأنّ المسألة في واقعها الأصيل لا تبتعد عن ذلك، ليترك الحوار يأخذ مجراه دون تعقيد، وصولاً إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية المنطلقة مع الحوار في الخطّ الصحيح...

الطرح القرآني الذي يبلغ القمة في إنسانية الطرح وحياديته، يرفع شعار «رأيي ورأي غيري يحتمل الخطأ والصواب في درجةٍ واحدةٍ»...". [تفسير من وحي القرآن، ج19].

العلامة الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله)، قال حول هذه الآية: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، هذا الأسلوب في الحوار والنقاش من خصائص العالم الواثق من نفسه كلّ الثقة، وكأنه يقول لخصمه: ابحث ودقّق لتعلم أيّ الفريقين أهدى سبيلاً".[التفسير المبين].

ما تربينا عليه هذه الآية، وما تربي عليه الدعاة إلى الله في كلّ المجالات الحياتية، هو سلوك الأسلوب الحيادي والهادئ والصحي، لجهة تبني الأفكار وطرحها ومعالجتها ومناقشتها بجوّ يضمن عدم خلق التوتر والقلق، بل جعل الخصم أو الطرف المقابل يهتدي للحقيقة والحقّ من دون مشاحنات أو خصومات أو حديّة تحرم الواقع من فرص الانفتاح والتّلاقي وإلقاء الحجّة كما يجب، وبالطريقة التي تؤدّيها على أكمل وجه، بما يحقّق النتائج الإيجابية المطلوبة.

إنّ واقعنا يحتاج فعلاً إلى هكذا تعاليم قرآنية راقية وحضارية، نستلهم منها كيفية الحوار والمناقشة والإقناع، والوصول إلى الحقيقة والحقّ من دون تعصّب، ومن دون تسجيل نقاط على بعضنا البعض، بل بالأسلوب الإنساني الذي يحترم الآخر، وينطلق من الشكّ وصولاً إلى اليقين، حيث تترسَّخ القناعات أكثر، وينتج من ذلك مزيد من الدفع نحو الإقبال على الحقّ طواعية، ومن دون عقبات نفسية أو فكرية. فهل يتعلّم من هم قيّمون على الواقع بمختلف مجالاته التربوية والدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية من هذه القواعد القرآنيّة التي تدفعنا لنكون الحضاريين والإنسانيّين الباحثين عن الحقيقة، والسّاعين إلى تثبيت الحقّ من دون خلفيات أو حسابات؟!

محمد عبدالله فضل الله

بينات