والعجيب هو أنّ بعض فلاسفة الغرب طرحوا هذه الأسئلة أيضاً ، وهي علامة على مقدار تصورهم السطحي في المباحث الفلسفيّة وتفكيرهم البدائي.
يقول الفيلسوف الإنجليزي الشهير (برتراندراسل) في كتابه (لِمَ لا أكون مسيحيّاً ؟) :
«كنت اعتقد باللَّه في شبابي ، وكنت أعتقد ببرهان علّة العلل كأفضل دليلٍ عليه ، وهو أنّ كل ما نراه في الوجود ذو علّة معينة ، ولو تتبّعنا سلسلة العلل لانتهت بالعلّة الأولى ، وهي ما نُسميّه باللَّه.
لكنني تراجعت عن هذه العقيدة بالمرّة فيما بعد ، لأنني فكرت بأنّه لو كان لكلّ شيء علّة وخالق ، لوجب أن يكون للَّه علة وخالق أيضاً» (1).
لكننا لا نعتقد بأنّ أحداً له أدنى اطلاع على المسائل الفلسفية الخاصّة بمباحث معرفة اللَّه تعالى ، وما وراء الطبيعة ، يحار في الإجابة عن هذا السؤال ، فالمسألة واضحة جدّاً ، فعندما نقول : إنّ لكل شيءٍ خالقاً وموجداً ، نقصد (كُلّ شيء حادثٍ وممكن الوجود) ، لذا فهذه القاعدة الكليّة صادقة فقط بخصوص الأشياء التي لم تكُن من قبل وحدثت فيما بعد ، لا بخصوص واجب الوجود الذي كان موجوداً منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد ، فوجود أزليٌّ لا يحتاج إلى خالق ، لكي نسأل عن خالقه ! ؟ فهو قائم بذاته ولم يكن معدوماً من قبلُ أبداً ، لكي يحتاج إلى علّة وجوديّة.
وبتعبيرٍ آخر : إنّ وجوده من ذاته لا مِن خارج ذاته ، وهو لم يكُن مخلوقاً ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ أُخرى كان من الأفضل ل (برتراندراسل) ومؤيّديه أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال : لو كان للَّه خالقٌ فسيرد نفس هذا الإشكال مع الخالق المفترض ، وهو : من خلق ذلك الخالق ! ؟ ولو تكررت هذه المسألة وافترضنا أنّ لكلّ خالق خالقاً لأدى ذلك إلى التسلسل ، وبطلانه من الواضحات ، ولو توصَّلنا إلى وجودٍ يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج إلى موجدٍ وخالق آخر (أي واجب الوجود) ، فذلك هو اللَّه رب العالمين.
ويُمكن توضيح هذه المسألة ببيانٍ آخر وهو : إننا لو لم نكن من المؤمنين على سبيل الفرض وكُنّا نؤيّد عقيدة المادييّن ، لواجهنا نفس هذا السؤال ، فبتصديقنا قانون العليّة في الطبيعة ، وأنّ كلّ شيء في العالم معلول لآخر ، سيرد هذا السؤال الذي واجهه المؤمنون باللَّه تعالى وهو : لو كانت جميع الأشياء معلولة للمادّة فما هي العلّة التي أوجدت المادة إذن؟
وسيضطّرون أيضاً للقول : إنّ المادة أزليّة ، وكانت موجودة منذ الأزل ، وستبقى إلى الأبد ، ولا تحتاج إلى علّة وجوديّة ، وبتعبيرٍ آخر هي (واجب الوجود).
وعلى هذا الأساس نُلاحظ أنّ جميع فلاسفة العالم سواء الإلهيين منهم أو المادييّن يؤمنون بوجودٍ أزليٍّ واحدٍ ، وجودٍ لا يحتاج إلى خالقٍ ومُوجد ، بل كان موجوداً منذ الأزل.
والتفاوت الوحيد هو أنّ الماديين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى فاقدة للعلم والمعرفة والعقل والشعور ، ويعتقدون بأنّها جسم ولها زمان ومكان. لكن المؤمنين يعتقدون بأنّ العلّة الاولى ذات علمٍ وإرادة وهدف ، وهو اللَّه تعالى وينزّهونه عن الجسميّة والزمان والمكان ، بل يعتقدون بأنّه فوق الزمان والمكان.
وعليه فقد أخطأ (راسل) في تصوره بأنّه يستطيع التهُّرب من مخالب هذا السؤال بترك زمرة المؤمنين والإلتحاق بالمادّيين ، لأنّ هذا السؤال ملازم له دائماً ، حيث إنّ الماديين يعتقدون أيضاً بقانون العليّة ويقولون : إنّ لكل حادثة علّة معينة.
إذن ، فالطريق الوحيد في حلِّ هذه المشكلة هو إدراك الفرق جيداً بين (الحادث) و(الأزلي) ، وبين (ممكن الوجود) و (واجب الوجود) ، لكي نعلم أنّ الذي يحتاج إلى خالقٍ هو الموجودات الحادثة والممكنة ، أي أنّ كل مخلوقٍ يحتاج إلى خالق ، وما ليس بمخلوق فلا يحتاج إلى خالق.
__________________________
(1) برتراند راسل ، في كتابه (لِمَ لَم أكُن مسيحيّاً).