"المَقْتَل" في اللغة مصدرٌ ميميّ، وجمعُه «مَقَاتِل». وفي الاصطلاح هو كتاب يروي شهادة الإمام الحسين عليه السلام، وأنصاره في كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة.
تعتبَر «قراءة المقتل» شعيرة من الشعائر الحسينية التي يؤدّيها محبّو أهل البيت عليهم السلام، في يوم عاشوراء، ولا يوجد تاريخ دقيق عن ابتداء قراءة المقاتل يوم عاشوراء، ولكن من المقطوع به أنّ أتباع أهل البيت عليهم السلام -تبعاً لأئمّتهم ومواساةً لهم- كانوا يتّخذون يوم عاشوراء يوم حزنٍ وبكاءٍ ونياحة. فضلاً عن ذلك، فقد سجّل التاريخ (كما في الحوادث الجامعة لابن الفوطي) أنّ الحاكم العباسي المستعصم، أمرَ عبد الرحمن بن الجوزي المحتسب بمنع الناس في يوم عاشوراء من قراءة المقتل والإنشاد بجانبَي بغداد، سوى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام؛ ما يكشف أنّ قراءة المقتل كانت معهودةً، على أقلّ التقديرات، في فترة الحكم العباسي.
وأمّا كتب المقاتل المدوّنة فكثيرة، وهي تُعدّ بالعشرات، ومن أشهرها:
- كتاب (وقعة الطفّ) المعروف بـ(مقتل أبي مِخْنَف)، لوط بن يحيى الأزدي، وهو أقدم كتاب في نقل أحداث واقعة الطفّ.
- (اللهوف على قتلى الطفوف)، للسيّد ابن طاوس الحلّي.
واللافت هنا أنّ كثيراً من المقاتل كُتبت بأقلامٍ لم تكن تابعةً لأهل البيت على مستوى التشيّع والانتماء، كان منها -بل من أفضلها- (مقتل الحسين عليه السّلام) للخوارزمي الحنفي.
هذا المقتل
ينطلق الكتاب من نقاط مهمّةٍ وحسّاسة، بعضها مُعَنوَنة بفضائل الإمام الحسين عليه السّلام، وهي تُشير إلى عظمته ومنزلته عند الله ورسوله صلّى الله عليه وآله.
وبعضها الآخر مُعَنونة بإنباءات النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله، حول شهادة سِبطه وريحانته أبي عبد الله الحسين عليه السّلام، فيروي مثلاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله استرجع يوماً ودَمِعت عيناه الشريفتان، فسُئل عن ذلك فقال لأصحابه: «هذا جبرئيل يُخبرني عن أرضٍ بشاطئ الفرات يُقال لها "كربلاء"، يُقتَل فيها ولديَ الحسين ابن فاطمة.
فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله؟!
فقال: رجلٌ يُقال له "يزيد"، لا باركَ اللهُ في نفسه.. ورجع مغموماً فصعد المنبر والحسينُ بين يديه مع الحسن، فلمّا فرغ وضع يده اليمنى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللّهمّ إنّي محمّدٌ عبدُك ونبيّك، وهذانِ أطائبُ عترتي، وخيار ذريّتي وأُرومتي، ومَن أُخلّفهما بعدي.. اللّهمّ وقد أخبرني جبريلُ بأنّ وَلَدي هذا مقتولٌ مخذول، اللّهمّ فبارِكْ لي في قتله، واجعله مِن سادات الشهداء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير.. اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله.
فضجّ الناس في المسجد بالبكاء، فقال لهم النبيّ: أتبكونَ ولا تنصرونه؟.
ومِن هنا يجد الخوارزمي ضرورةً في بيان ما جرى على الإمام الحسين عليه السّلام، لا سيّما يوم عاشوراء، فيكون ذلك سبباً لتأليف المقتل الذي يكشف عن عِظَم مظلوميّة آل الرسول، وضرورةِ تكفير الأُمّة عن ذلك بالعزاء والنياحة، مِن خلال قصّة الشهادة الفجيعة في طفّ كربلاء.
فكتب الخوارزمي: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (كلُّ بني أُمٍّ ينتمون إلى عُصْبتهم، إلاّ وُلْدَ فاطمة؛ فإنّي أنا أبوهم وعصْبتُهم). والأخبار في أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان يُسمّي الحسنَ والحسين ابنَيه، كالحصى لا تُعدّ ولا تُحصى. وقد ابتُليَ الحجّاج بالمِحْجاح يحيى بنِ يَعْمُر، المُؤيَّد من الله بالجواب الصواب، أن أخذ بكظمه حين تلا عليه آيةً فيها أنّ عيسى مِن ذريّة إبراهيم، وهو يُدْلي إليه بأُمّه (مريم عليها السّلام)، فألقَمَه جندلةَ حُجّته، وأوضح له الحجّةَ مِثل مُوضِحةِ رأسه، وتركه يَهيم في وادي وَسْواسه، لعَنَ اللهُ الحجّاج وكلَّ ملعونٍ مِن نسله، وكلَّ مَن انضوى إلى حفله، واحتطب بحبله، مِن مبغضي أهل البيت، ولعَنَ اللهُ مَن لم يلعن مُبغضي أهل البيت وقاتليهم وسافكي دمائهم، والذين أعانوا على قتلهم وأشاروا إليه، ودَلُّوا عليه، أليس قد عُرِف مِن دِين الإسلام أنّ مَن دلّ على قتل صيد الحَرَم، كمَن قتَلَ صيدَ الحرم في الأحكام؟! فهذا حُكم الله في الدالّ على صيد الحَرَم، فكيف يكون حُكمُ الله في مَن انتهَكَ حُرمةَ رسوله في الحَرَم، وسَفَك مِن دمِ سبط شفيع يومِ العَرض، ولم يكن حينئذٍ ابنُ بنت نبيٍّ غيره في بسيط الأرض؟!".
بعد هذا قال الخوارزمي معلّلاً: «وأنا لمّا عجزتُ -لتأخير زماني- عن المناضلة دون الحسين، وإراقة دمي والمُثولِ بين يَدَيه على قَدَمي، أحبَبتُ أن أجمعَ مقتله بِلُعابِ قلمي، وأُطاعِنَ دونه ودون ذريّته باللّسان، إذ لم أُطاعِن دونَهم بالسِّنان، وأُضاربَ عِداهم بالبيان المُساعِد، إذ لم أُضارب دونهم بالبَنانِ والساعد؛ ليجدّدَ مُطالِعُ مجموعي اللعنَ على قاتليهم، ويوجِّه اللاّئمةَ على خاذليهم وخاتليهم؛ وليكون لي حظٌّ في شفاعة جدّهم محمّدٍ المجتبى مِن بريّته، مع الأولياء من ذريّته، يومَ ينادي المنادي مِن وراء حُجُبِ العرش: (يا أهلَ الموقف غُضُّوا أبصارَكم لِتجوزَ فاطمةُ بنت محمّد)؛ فتمضي في ساحات القيامة متلفّفةً بثوبٍ مخضوبٍ بدم الحسين، فتحتويَ على ساق العرش، ثمّ تقول: (أنت الجبّارُ العَدْل، اقضِ بيني وبينَ قَتَلَةِ وَلَدي). قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فيقضي اللهُ لِبنتي وربِّ الكعبة). ثمّ تقول: (شفِّعْني فيمَن بكى على مصيبتي)، فيشفّعها اللهُ تعالى فيهم".
خصائص لافتة
صحيحٌ أنّ عنوان كتاب الخوارزمي هو (مقتل الحسين عليه السّلام)، وأنّه يُستوحى منه أن يكون مَداره هو شهادة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام، إلاّ أنّ المؤلّف سلك فيه مسلكاً خاصّاً، فجعل الجزءَ الأوّل منه دائراً حول الفضائل، وحولَ بعضِ الوقائع الخاصّة التي سبقت واقعة طفّ كربلاء، ثمّ تفرّغ في الجزء الثاني إلى الواقعة المفجعة بتفاصيلها.
أمّا الفضائل، فقد بدأها بفضائل رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، والسيّدة فاطمة بنت أسد، ثمّ نماذج من فضائل أمير المؤمنين وذريّته الطاهرة، عاطفاً عليها فضائلَ الصدّيقة الزهراء فاطمة صلوات الله عليها. فلمّا استغرق ذلك منه خمسةَ فصولٍ كاملة، تفرّغ الخوارزميّ لفضائل الإمامين الحسن والحسين عليهما السّلام، مؤكِّداً الفضائل الخاصة للحسين الشهيد، مُلحِقاً بها فصلاً في إخبارات النبيّ المُنْبِئة بشهادة سبطه وريحانته الإمام الحسين عليه السّلام، فكان كلُّ ما قاله وأخبر به وأنبأ، مطابقاً للواقع وللوقائع.
ثمّ يدخل الخوارزميّ بعد ذلك إلى ذِكر بعض الحوادث السابقة لملحمة عاشوراء، في المدينة، ثمّ في مكّة، ثمّ ما جرى في السفر الإلهيّ إلى أرض كربلاء.
بعدها يفصّل في الوقائع الرهيبة، والغريبة، يشفعها بفصلٍ حول بيان العقوبات الإلهية النازلة على قاتلي الحسين وخاذليه ولعْنهم، وفصلٍ عيّنه لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السّلام.. حتّى إذا بلغ الفصل الأخير من الكتاب -وهو الفصل الخامس عشر- خصّصه الخوارزميّ لذِكر انتقام المختار بن أبي عُبَيد الثقفي من قَتَلةِ سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه.
ومن خلال مطالعة الكتاب بدقّةٍ وإمعان يقف القارئ النَّبيه على هذه الخصائص:
الخصيصة الأولى: جامعيّة هذا المقتل الشريف وإحاطته.
الثانية: جمعُه بين الروايات المحضة والأخبار التاريخيّة؛ فالخوارزميّ يُعدّ مؤرِّخاً وراوياً في الوقت ذاته.
الثالثة: امتياز هذا المقتل بثبوت أسانيده الخاصّة وامتدادها إلى زمن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، وكذا امتداد طرق رواياته إلى الصحابة فضلاً عن أهل البيت عليهم السّلام.
الرابعة: إنصاف المؤلّف وعدم تعصّبه ضدّ التشيّع.
أمّا الخصيصة الخامسة: ربّما عُدّ الخوارزميّ من المتساهلين في أسانيده، إلاّ أنّ التحقيق أثبت خلاف ذلك. فهو، ومِن أجل إكمال سِيَر الحوادث والوقائع، يروي كثيراً من المراسيل يعضدُها الاعتبار.
مَن هو الخوارزمي؟
يُلَّقب بـ «أخطَب خوارزم» وبـ «خليفة الزمخشري»، وُلد سنة 484 للهجرة. ذكره المؤلّفون في كتبهم كالسيوطي في (البُلْغة) ونقل له عن القِفْطي والصَّفَدي مديحاً وإعجاباً به. وممّن نقل عن كتابه (مقتل الحسين عليه السّلام): الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب)، واليماني الصَّنعاني في (الرَّوض الباسم)، والزَّرَندي الحنفي في (نَظْم دُرَر السِّمطين)، وابن الصبّاغ المالكي في (الفصول المهمّة)، والهيتمي ابن حجر في (الصواعق المحرقة)، والسَّمهودي في (جواهر العقدين).. وغيرهم.
وأمّا أهمّ مصنّفات الخوارزمي فهي: (كتاب الأربعين في أحوال سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله)، و(مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام)، و(مقتل الحسين عليه السّلام) في جزءَين.
وممّا نُقل له من أشعار في فضائل أهل البيت عليهم السّلام قوله:
ألا هـلْ مِن فتىً كأبي تُرابِ إمامٌ طاهـرٌ فـوقَ الترابِ!
إذا ما مُقلتي رَمِدَت فكُـحْلي تُرابٌ مَسَّ نَعْلَ أبي تُـرابِ
هو البكّاءُ في المحرابِ ليلاً هو الضحّاك في يومِ الحِرابِ
وكتب عددٌ من العلماء حول حياة الخطيب الخوارزمي، منهم: السيّد حامد الحسيني في (عبقات الأنوار)، والعلّامة الأميني في (الغدير)، والشيخ محمّد السماوي في مقدمة كتاب الخوارزمي (مقتل الحسين عليه السّلام)، حيث راجعه وحقّقه، وتطرّق إلى نشره في مدينة النجف الأشرف سنة 1367 للهجرة، شاكراً الأيدي التي حَفِظت تراثاً يصرخ بمظلوميّة أهل بيت الرسالة وظالميّة أعدائهم.
المصدر:مجلة شعائر