وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان ، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به ، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت ، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة ؟ والله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء ؟ .
والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلا وفي إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة ، لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفني ذاك ، فعالم المادة عالم التبديل ، والتبدل وإن شئت فقل : عالم الآكل والمأكول.
فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.
ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية، ولا يزال أحدهما يراجع الآخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، وهي تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهي تتغذى بدم الإنسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.
فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها ، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك ، وهو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا.
وفي مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن ، فلا هو مثل الغنم والبقر من الأنعام لا تستطيع قطعا ونهشا ، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا.
ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها.
كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمن الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية ، وإباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما وإنكار الآخر؟.
والإسلام دين فطري لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة وتقضي به الفطرة.
وهو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين ، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم ، وحكم الإحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين ، وقد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم ، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله ، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالأزلام ونحو ذلك ، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان ، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام والأسقام والمصائب وأنواع العذاب.
ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان وفيه هلاك الأرض ومن عليها.
ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل ، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ، ووضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
ومع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل ، ومرجع ذلك إلى اتباع حكم العقل.
وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين ، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم ، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه ، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس ، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا ، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.
فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة : {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30] ! .