محمد عبدالله فضل الله
وسنورد قصة إنسان يصف ما يحدث معه يوم القيامة بطريقة سردية حوارية ممتعة، تحمل الكثير من الدلالات والمعاني، فهناك عالم جليل يكتشف أن صحيفته سوداء يوم القيامة. يحكي أحد العلماء قصته فيقول:
رأيت رؤيا في منامي كأن القيامة قد قامت، والمحشر يغص بالخلائق،والكتب تتطاير. كنت أهرول مذعوراً لأعرف مصيري، لا أحد يجيبني. وقفت قليلاً ألتقط أنفاسي. راودتني خلجات تقول لي أنت عالم معروف وشيخ جليل القدر، فلم تخاف؟ اهدأ ولا تخف.
بعد لحظات، رأيت مخلوقين غريبين اتجها إليّ وأمسكا بي وكأني مجرم. استغربت، فسألتهما: لم تعاملاني هكذا؟ فردا عليّ: نحن عملك في الدنيا نتجسّد لك على صورة مخلوقين. فذهلت من شكلهما المخيف، وسرت معهما إلى جهة مجهولة، تركاني هناك وحدي، ومضيا عني. تلفت يميناً شمالاً لا أحد هناك. فجأة، حضر لي شخص مهيب وقور وفي يده كتاب. قال لي:
يا فلان، ماذا تتوقع مصيرك؟ فقلت بسرعة وبدون تردّد؟ الجنة. فقال: خذ هذا الكتاب وعدّ الصفحات البيضاء، فإن خرجت لك بمقدار ثلاثة أرباع الكتاب، فاتجه من هنا. وأشار إلى جهة خضراء فيها زرع ونهر يجري، وإن خرج لك النصف، فاتجه من هنا، وأشار بيده الى جهة تراب عادية، فيها طريق طويل خال من اي شيء، وإن خرج لك الربع، فاتجه من هنا، وأشار بيده الى جهة قاتمة فيها ظلام، وإن خرج لك أقل من الرّبع، فاتجه من هنا، وأشار الى جهة فيها وهج وحرارة وأصوات فوران مختلفة، فقلت له: وإن خرج لي فوق ثلاثة أرباع؟ فابتسم وطأطأ رأسه إلى الأرض، وقال: تأتي معي حينها.
فوضعت يدي على الكتاب لأفتحه، ويدي ترتجف خوفاً، ففتحته، وبدأت أنشر صفحاته، لكني لم أجد صفحة واحدة بيضاء، فتغلغل لساني من الصدمة، فنطقت بكلمات متقطعة، ولكني عملت الكثير في دنياي من الأعمال الصالحة، فلم لم ترصد لي؟ فردّ عليّ: لقد رصدت لك كل أعمالك. فقلت: إذاً لماذا لا أجد صفحة بيضاء؟ قال: لأن أعمالك أكثرها ظاهرها جيدة وباطنها غير جيد، وهذه الصفحات لا تكون بيضاء إلا بجودة باطن العمل دون ظاهره. فقلت: ولكني حين عملت كنت أبتغي وجه الله، فقال لي:
كنت تريد من عملك وجه الناس وليس وجه الله، والله مطلع على سريرتك، وقد نلت نصيبك من الناس في الدنيا، وهم محلّ اهتمامك. فقلت: وكيف؟ فقال: افتح الصفحة الفلانية. ففتحتها، فقال: اقرأ ماذا فعلت في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية. فقرأت، فوجدت أنه مكتوب لي أنني ناظرت العلماء الفلانيين في موضوع فلاني، ولم يكن قصدي الباطني سوى حبّ الظهور، رغم أني كنت قد تظاهرت أنّ هدفي خدمة الموضوع والحقيقة، لكن الله لا تخفى عليه النوايا، فرصدت لي، ولكن الصفحة لم تبيض ببياض النيّة، لأن نيتي ليست بيضاء، ولا يبيض الصفحات إلا النية البيضاء. تذكرت حينها ذلك الموقف، وتذكرت فعلاً كيف كنت أتباهى في داخلي. ثم قال لي: افتح الصفحة الفلانية، ففتحتها، فوجدت مكتوب فيها، أنني صمت الأيام الفلانية تطوعاً، ولكني قصدت وجه الناس بجزء منها، حيث كان بمقدوري أن أخفي هذه العبادة، إلا أن نفسي أبت إلا أن أفتعل الأسباب لأعلم من حولي أني صائم، وبهذا فسد عملي بالرياء والعجب، فلم تبيض صفحتي بسببه.
وظل يقول لي افتح الصفحة الفلانية والفلانية، إلى أن فتحت صفحة كان فيها أني وجدت قوماً يتحزبون ضدّ مؤمن لم يذنب في حقهم أيّ ذنب، غاية ما في الأمر، أنهم لا يرتاحون له، لعدم انسياقه لرغباتهم وأفكارهم، فتبعتهم في تحزبهم ضدّه بغية الحضوة منهم، وها أنا نلتها منهم، فقد رفعوا منزلتي لديهم. فأخذت ثوابي في الدنيا، فلم يبق لي ما يبيض صفحتي في الآخرة.
فنظر الرجل لي وقال: لقد أخذت نصيبك في الدنيا، ولم تبقي لك شيئاً إلى الآخرة. طأطأت برأسي وقلت: وا أسفاه، كل تلك الأعمال التي عملتها لم تنفعني اليوم. ثم انحدرت دموعي على خدي وأنا اقلب في الصفحات، إلى أن وجدت صفحة بيضاء ناصعة، ففرحت فرحاً شديداً، وقلت للرجل: لقد عثرت على صفحة بيضاء، ففتحتها، فوجدت مكتوباً فيها: عبدي، لقد أعطيت يتيماً في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية مبلغاً مالياً قدره كذا ليصلح أموره الدراسية، وقد تسببت له في نجاحه في المدرسة ولم تطلع أي مخلوق عليك، ولم تكن تريد غير وجه الله، ولم تشب نيتك شائبة. ومرت الأيام والسنون واليتيم كبر، وكان الناس يظنون أنه تلقى مساعدة من أقاربه، حتى مرضت مرضاً شديداً ذات مرة، فكان اليتيم يبكي بجانب فراشك بكاءً شديداً، مما لفت أنظار الناس، فسألوه هل يقرب لك هذا المريض؟ فقال لا، ولكنه كان سبب تفوقي في دراستي، حيث كان يعينني على شراء الكتب الثمينة، ويعطيني ثمن الدراسة وغيرها بعد وفاة والدي، فحسبت لك كل دمعة من دموع هذا اليتيم ذرفها على فراشك، وحسب لك كل ما ناله من تفوق، وحسب لك إخلاص عملك لله. فانحنيت على الرجل أقبّل يديه، وقلت له: أريد أن أبحث أكثر، لعلي أجد صفحات أخرى.
وفي الأخير، خرجت بربع المقدار، فحمدت الله كثيراً، واتجهت إلى الجهة التي وجهني إليها الرجل، فتفاجأت أني وجدت هناك الكثير ممن كنت أظنهم في الدنيا أنهم في أعلى عليين في الجنة، وكلما سألت أحداً منهم، قال لي إنه مفلس، فلقد أكل الرياء والعجب أكثر أعماله، وأن نيته لم تكن خالصة لوجه الله.
وكأني مكثت زمناً طويلاً في هذه الجهة. ثم خطر على بالي أن أتفقد أشخاصاً كنت أستهجنهم في الدنيا، وأترفع عليهم، إما لعدم إقبال الناس عليهم، وإما لعدم بروزهم في المجتمع، وإما لعدم إشادة الناس بهم، وإما لأني أرى نفسي أحسن منهم، وإما لأسباب مشابهة، فذهبت أمشي في كل مكان أبحث عنهم، فلم أجدهم، فخطر على بالي أنهم ربما في الدرجة التي هي أقل من درجتي، فسولت لي نفسي أن أتجه إلى الرجل المهيب وأسأله. وفعلاً توجهت وسألته، فأشار إلى الجهة الخضراء، فاغبر وجهي، وشعرت بالحسرة والندم، حيث عرفت ساعتها أن الرفيع عند الله هو من كنت أستهجنه في الدنيا أنا وأمثالي، وأن الوضيع عنده هو من كنت أنا وأمثالي أرفعه في الدنيا وأمجده. حينها، تمنيت لو أعود إلى الدنيا لأرفع وأعتذر من كلّ شخص احتقرته أو ظلمته أو استنقصته أو وقفت مع الظروف ضده، أو ساعدته لألقى التمجيد والتمديح والإشادة من الناس.
صحوت من النوم وكأن الرؤيا لم تكن رؤيا، بل كانت واقعاً مريراً عشته .
الغريب في الأمر، أني رغم طول الرؤيا، إلا أني لم أكن قد غفوت كثيراً، حيث نمت بعد صلاة الليل بدقائق ريثما يحين وقت صلاة الصبح. بعد هذه الرؤيا، قصدت في اليوم الثاني أحد المراجع العظام في قمّ المقدّسة، وقصصت عليه رؤياي وأنا حزين، فطمأنني وقال لي: لو لم يحبك الله، لما ساق لك هذا التنبيه في المنام، وإنما ساقه لك ليأخذك نحو التكامل الروحي، ولا بد أنك فعلت شيئاً عظيماً هذه الفترة الأخيرة جعلت الله ينعم عليك بنعمة الهداية.
فسرحت بفكري بعيداً أتذكر شيئاً فعلته فلم أتذكر، لكن شيئاً خطر على بالي، وهو أني بدأت أقلل من تواجدي مع زملائي في مجالس كنت قد اعتدت على حضورها، وما دعاني إلى التقليل، هو وجود بعض الأمور التي تتنافى مع كمال الأخلاق التي يفترض بطالب العلم أن يتجنبها لتسمو روحه، ومن ذلك، الإكثار من الاهتمام والحديث والتلذذ بالشهرة وحب الرئاسة، وبعض المظاهر، مع أنها تتم في طابع ديني، إلا أني شعرت بهبوط في المستوى الروحي، وأحسست بعدم الارتياح من نفسي، فأصبحت أفضّل الخلوة لمحاسبة نفسي ومراقبتها وتهذيبها. فقط هذا هو ما أتذكر أني فعلته في الآونة الأخيرة، فقال لي المرجع الجليل: كفى بهذا سبباً لأن يسخر لك الله رؤيا تصلحك، فقد كانت نيتك من تقليلك هذه المجالس هو صلاح نفسك، ومن قصد صلاح الطوية، وفقه الله. ألم تقرأ الآية الكريمة: {إنَّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}؟
فودعت المرجع، وعدت أتفكر فيما حدث. لم أكن أتوقع إلى هذه الدرجة أنّ الرياء والعجب وحب الشهرة والرئاسة تحرق أعمال الإنسان !
الخلاصة والعبرة من القصة:
- العمل هو الأساس يوم القيامة، وليس أي اعتبار أو عنوان آخر من جاه أو منصب أو مال أو ولد.
- الله تعالى يحصي كلّ كبيرة وصغيرة على عبده ويسجّلها في كتابه الخاص الذي سيكون ماثلاً أمامه يوم الحساب.
- لحظات الإنسان ستكون مصيرية عندما يفتح كتابه وينظر في صحيفة أعماله.
- حساب الله يختلف عن حساباتنا.
- العمل المتقوم بالنية الصادقة وبالإخلاص والطاعة والتقرب إلى الله هو ما يرفع إليه تعالى.
- الرياء والشهرة وحب الرئاسة مفسدة للأعمال وتضييع للثّواب.
- ضرورة النظر بصدق إلى أعمالنا وتصحيحها حتى تكون مقبولة عنده تعالى قبل فوات العمر.
- بعض الحسنات قد تنجينا وتُذهب السيئات، ومن أهمها احتضان اليتيم ومساعدته.
- إصلاح النفس والنية والعمل هو توفيق من الله لعبده.