لم يكن مُدرّس الرياضيات، الذي اختلف مع زملائه بجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وسافر إلى السعودية في ستينات القرن الماضي من أجل تدريس تخصّصه لطلاب المرحلة الثانوية، يعلم أنه سيصبح مؤسّسًا لتيار ديني جديد سيُنسب إليه، وسيلعب دورًا محوريًا في ساحة الإسلام السياسي، وسيكون الشريان الأساسي المُغذي لما عُرف في السعودية باسم «الصحوة».
التقرير التالي يحاول إلقاء الضوء والتعرّف عن كثب على هذا التيار الذي يُمثّل حلقة وصل بين فكر السلفية وأيديولوجية الإخوان، والذي وصفه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حديثه الأخير مع «التايمز» البريطانية بأنه «الأكثر تطرفًا وخطورة في الشرق الأوسط».
السرورية: الخطّ الواصل بين «التوحيد» و«الظِلال»!
ما عرفتُ الإسلام إلا عن طريقهم. *الشيخ محمد سرور زين العابدين متحدثًا عن جماعة الإخوان المسلمين
خرج الشيخ محمد سرور من سوريا في أواخر الستينات من القرن الماضي بعد اختلافه مع إخوانه داخل جماعة الإخوان المسلمين، وتضييق نظام حافظ الأسد عليهم، والبدء في ملاحقتهم؛ فاتجه إلى السعودية؛ حيث استقر فور وصوله في معقل الدعوة السلفية، منطقة القصيم، ثم بدأ أوّل ما بدأ بطرح أفكاره التي كانت ترسم خطًّا بين منهج السلفية وفكر الإخوان، فجذب إليه العديد من الشباب الذين وجدوا في طرحه ثوريّة غائبة كانوا يبحثون عنها.
إذ أخذ هذا التيار الجديد عن السلفية التقليدية، موقفها الصارم من المخالفين لأهل السُنّة من الفرق والمذاهب الأخرى، مثل الشيعة، كما أخذ عن أطروحات سيد قطب الأفكار الثورية الحِراكية؛ فتأسس التيار الذي وجد في المجتمع السعودي ضالته؛ فنما وأثمر، وأصبح الشيخ السوريّ مرجعًا حركيًّا للشباب السعودي والعربي المتحلّق حوله.
وطوال فترة وجوده بالمملكة تأثّر الشيخ محمد سرور بأطروحات السلفية وابن تيمية، وأثّر في الوقت ذاته بالشباب السلفيّ بفكر الإخوان في التنظيم والحاكمية والسياسة، الذي كان جديدًا عليهم؛ مما سمح لأفكاره بالانتشار سريعًا، وأصبح له أنصار من النخبة الشرعية بالمملكة، وخاصة الشباب؛ إذ تتلمذ على يده أسماء لمعت لاحقًا، مثل الشيخ عائض القرني، والشيخ سلمان العودة، والشيخ ناصر العمر، والشيخ سفر الحوالي.
وبالرغم من الدور الكبير الذي لعبه سرور في تأسيس هذه الحركة الوليدة داخل المملكة السعودي، إلا أنّه كان يؤكد على أنه ليس قائدًا للحركة، وأنه ليس عالمًا، ويكره أن تُدعى بالسرورية – أطلق اسم «السرورية» على هذه الجماعة معارضوها من أهل السنة ومن الإخوان المسلمين – فيما تولى قيادة الجماعة فلاح العطري، وإليه نُسبت الجماعة في البداية.
فيما بعد وتحديدًا في عام 1973 طلبت المملكة من سرور أن يُغادرها؛ فارتحل إلى الكويت، وهناك التحق بأسرة مجلّة المجتمع التي كان يصدرها الإخوان المسلمون، ثم ارتحل مرة أخرى إلى بريطانيا بعد الضجة التي أحدثها كتابه: «وجاء دور المجوس»؛ فظل فيها ما يقرب من 30 عامًا، أسس خلالها «المنتدى الإسلامي»، و «مركز الدراسات الاستراتيجية» في برمنجهام، وأصدر عبره «مجلة السُنّة» الثورية، وواصل من هناك رعاية تياره الحركي والتأصيل لفكره؛ حتى صار متشعبًا في الخليج ( الفارسي ) ومصر واليمن. وعندما وقعت حرب الخليج ( الفارسي ) الثانية بزغ وجوده عبر مخالفته لرأي هيئة كبار العلماء وتحريمه الاستعانة بالمشركين وإدخالهم جزيرة العرب، ثم غادر بريطانيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ومكث بالأردن قليلًا، قبل أن ينتهي به المطاف في قطر التي ظلّ فيها إلى أن تُوفي عام 2016.
صِدام مع المؤسّسة السلفيّة السعوديّة
إن الدعوة السلفيّة أكبر من أن تستوعبها جماعة أو شيخ، أو عدد محدود من الأفراد، وليس هناك جهة أو مؤسسة يحق لها ادعاء حق الوصاية على هذه الدعوة. *الشيخ محمد سرور زين العابدين
يرى الإمام الألباني أن السرورية «خارجية عصرية»، ولما سُئل الشيخ ابن باز مفتي المملكة السابق عما ذكره سرور في كتابه «منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله»، وقوله: «نظرت في كتب العقيدة؛ فرأيت أن أسلوبها فيه كثير من الجفاف؛ لأنها نصوص وأحكام، ولهذا أعرض عنها معظم الشباب»، قال هذه «ردّة»، وحرّم بيع الكتاب، وأمر بتمزيقه، فيما قال الشيخ ابن عثيمين: «هذه الكلمة كفر»، وقال الشيخ فوزان: «هذا كفر، وهذا رجل خبيث».
ومن مآخذ السلفية على السروريين أنّهم يرونهم مخالفين لأهل السنة؛ إذ يقولون بكُفر مرتكب الكبيرة، ويقرّون العمليات الجهادية، ويُكفّرون من يحكم بالقوانين الوضعية، ويخلّون بمبدأ السمع والطاعة لولاة الأمر، ويدعون للخروج عليهم، ويبرأون من بعض علماء أهل السنة، مثل الشيخ ابن باز، بدعوى أنهم علماء سلاطين، ويوالون الصوفية والقطبية – نسبة إلى سيد قطب – بالإضافة إلى إهمالهم للدعوة واجتهادهم لتوحيد الحاكمية.
دعاة الصحوة.. هؤلاء نبتوا في كنف السرورية
إبان تواجد محمد سرور في السعودية تتلمذ على يده العديد من شباب الدعاة الذين صاروا فيما بعد علامات للتيار الصحوي في المملكة، وعلى رأسهم د. سلمان العودة، وعائض القرني – وقد قاما لاحقًا بمراجعة فكرهما وقالا بتخلّيهما عن الدعوة للعنف وحمل السلاح – والشيخ ناصر العمر، والشيخ بشر البشر، والشيخ سفر الحوالي، أما أشهر دعاة السرورية في مصر، فمحمد عبد المقصود وتلاميذه، والشيخ محمد بن إسماعيل المقدم وجماعته.
ومن بيان أثر الشيخ سرور في أتباعه، هذه القصة التي يحكيها رئيس الهيئات السابق في القصيم، والمهتم بالنشاط الديني والخيري، الشيخ عبد العزيز اليحيى، والذي كان معاصرًا لهذه المرحلة المهمّة في بدايات انتشار الفكر الصحوي السروري في المملكة، ويقول فيها: «إن تأثير ابن سرور في السعودية بدأ من خلال تدريسه في المعهد العلمي، وكان أبرز الوجوه للتيار السروري، الداعية سلمان العودة، والذي كان اسمه سليمان، ثم طلب منه الشيخ سرور تغيير اسمه إلى سلمان، مستدعيًا باستمرار قصة سلمان الفارسي، ومردّدًا: سلمان منّا آل البيت، وأنه لا يوجد بعائلته (عائلة العودة) اسم سلمان، فوالده فهد السليمان وعمه حمد السليمان، فقام سلمان العودة بتغيير اسمه بالفعل، وقام بتسجيله رسميًا».
السرورية والربيع العربي.. هل دقت ساعة التمكين؟
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، كان محمد سرور قد بلغ من العمر عتيًا، لكنه مع ذلك تفاعل مع هذا الحراك الحادث، ودعا السلفية الحركية للبزوغ سياسيًا، والسعي لإنشاء أحزاب سياسية في هذه الدول التي وصلتها موجة الربيع العربي؛ إذ كان تيار السرورية قد تعرض لملاحقات أمنية في بعض الدول التي منها اليمن، واقتصر نشاطه على العمل الخيري والدعوي، ثم رأى ضرورة التهيؤ لدخول مجال العمل السياسي، في صورة الأحزاب السياسية.
جانب من إحدى تظاهرات الربيع العربي في اليمن
لكن هذه الدعوة تسببت في إحداث جدل واسع بين أوساط السلفية الحركية؛ وذلك لأن هذا التيار لم يرتكز إلاّ على «ثورية الحاكمية»، والتي تتعارض مع فلسفة الديمقراطية التي قامت على أساسها ثورات الربيع العربي.
وبرغم التباين الذي وقع داخل هذا التيار، إلاّ أن الغالبية قررت بالفعل خوض غمار العمل السياسي في مصر واليمن، ونشأت بالفعل في هذه الدول أحزاب سياسية كنموذج للشكل الأخير الذي ارتأه محمد سرور.
السرورية والسلطة.. الحاكمية القطبية أساسًا ومبدأً
كان موقف التيار السروري من السلطة السياسية واضحًا منذ بداياته؛ إذ ينطلق من مفهوم الحاكمية القطبية التي تنزع المشروعية عن كل الأنظمة السياسية في العالم العربي، وتتعدّى إلى تكفيرها، ويرى الباحث عبد الله بن بجاد في بحثه: «السرورية.. النشأة والتنظيم»، المنشور ضمن كتاب «السرورية» الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث، بدبي عام 2007، أن اعتراض السرورية على الأنظمة السياسية في العالم العربي كان من أجل تمهيد الطريق للوصول إلى السلطة والتربع عليها، إذ إن ذلك – بحسبه – هو الهدف الأساسي لكل تنظيمات «الإسلام السياسي»، ويمكن ملامسة هذا الأمر بوضوح في حديثهم عن الخلافة، والتمكين، وإعداد الأجيال لهذا الأمر، وكذلك من قراءاتهم للحركات الثورية في التاريخ الإسلامي.
ويرى الباحث أن السروريين ينتهجون مع السلطة السياسية لعبة القرب والبعد و«شعرة معاوية»، ولا يتورّعون عن التضحية ببعض الجماعات الإسلامية الأخرى من أجل خدمة التنظيم، مستشهدًا بموقف الشيخ محمد سرور من حركة جهيمان العتيبي، وكذا موقف الشيخ سفر الحوالي من تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، وفي الوقت نفسه روجوا بشكل واسع لمقولة أن «أولي الأمر» في النص القرآني هم العلماء، وليس الحكام، وذلك من أجل إضفاء مشروعية على الخروج على الحكام، وبغرض تركيز السلطة في أيديهم، وأطلقوا فيما بعد مفهوم «لحوم العلماء مسمومة»؛ ليغلفوا مواقفهم بالقداسة الدينية بحسب الباحث.
أما موقفهم من الديمقراطية فمتباين ومتناقض، فالخطاب النظري لدى السرورية يحرّم الديمقراطية، ويقول بأنّها كفر ومنازعة للخالق، لكنهم مؤخرًا بدأوا في التفريق بين فلسفة الديمقراطية وآليتها، وكتب سفر الحوالي، وناصر العمر، وغيرهما يؤيّدون المشاركة في الانتخابات البلدية في المملكة، شريطة أن يسيطر الإسلاميون على آلية الديمقراطية هذه، وأن يكون لهم حق الاحتساب على مؤسسات المجتمع المدني والأعضاء الذين ينتخبهم الناس.
شفقنا
24-110