السيّد عبّاس نورالدين
بالنسبة للذين وُلدوا في أيّام النّكسة وشهدوا الهزائم الكبرى وعاينوا تجبّر الكيان الصهيونيّ وأدركوا أنّ هذه الدويلة المزعومة ليست سوى قاعدة متقدّمة للغرب في قلب بلاد المسلمين، فإنّ القضاء عليها أو زوالها سيكون أكبر من الحلم.
أن تحلم بشيء يعني أنّه ممكن وإن كان كبيرًا، لكن هناك ما يفوق الحلم! وهو الذي لا نقدر عادة على حشره بين خيالاتنا الكثيرة.. فكيف سيكون العالم بعد زوال إسرائيل (ما هو أكبر من الحلم)؟
لا شك أنّه سيتغير كثيرًا؛ فالغرب كما نعرفه اليوم لن يبقى كذلك، لأنّه يعتمد في قوّته الاقتصاديّة وفي تفوّقه العسكريّ والأمنيّ على كسر المسلمين ومحاصرة الإسلام (الأمر الذي أوكله إلى الصّهاينة بصورة مباشرة). والعالم الإسلاميّ سيتغيّر كثيرًا لأنّ معظم الأنظمة التي تشكّلت فيه قامت على أساس وجود الكيان الصهيونيّ كحامٍ لها، وإن كانت موجودة في الخليج! والذين لا يدركون العلاقة الوجوديّة بين هذه الأنظمة، لا يعرفون شيئًا عن النّظام العالميّ ونظام الشّرق الأوسط ما بعد الحرب العالميّة الثّانية.
أجل، سيتغيّر العالم كثيرًا وستتقارب الشّعوب وتنهار سدود، لكن ينبغي أن نعلم أيضًا أنّ تحرير القدس ليس آخر العالم؛ وأنّ هناك الكثير ممّا سيبقى لأجيال ما بعد التّحرير لتفعله. ففي الرّؤية التي نحملها عن التّطلعات الإسلاميّة لمستقبل العالم والأرض، قد يكون زوال الكيان الإسرائيليّ خطوة في رحلة الألف ميل!
بالنسبة للذين لا يرون الحياة على الأرض إلّا مجرّد صراعات وحروب، يصعب عليهم أن يتخيّلوا ما ينبغي أن يتحقّق في هذا العالم ما خلا القضاء على الأعداء. فهؤلاء مسكونون بفكرة واحدة، وربما لا يُلامون على ذلك لشدّة انشغالهم بها. لكنّ العالم والحياة على الأرض أمرٌ أوسع وأعمق بكثير من كونها حروب وصراعات. وفي الحقيقة فإنّ الصّراعات العسكريّة ليست سوى وسيلة على طريق تحقيق الأهداف الكبرى والتي سيكون منها القضاء على الحروب. هناك حيث سيبدأ عصرٌ جديد كبير طويل من العمل والسّعي البشريّ القائم على السّلام.
إنّ السّلام العالميّ هو أحد مظاهر نجاح المشروع الإلهيّ في خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض (ولا شك بأنّ هذا المشروع منتصر وغالب)؛ هذا الإنسان الذي اعتُبِر كائنًا لا يعرف سوى الإفساد وسفك الدماء، سيكون في يومٍ من الأيّام لائقًا بالخلافة (ليس في بعض المصاديق، بل من حيث النوع)، فيحقّق أهدافها ومعانيها على الأرض نفسها.
ووفق الرؤية الإماميّة (التي يصعب أن نجد مرادفًا لها في أيّ مكان في أديان ومذاهب العالم)، فإنّ السّلام العالميّ يحصل حين تؤمن البشريّة بضرورة اتّباع الإمام العادل المعيّن من قبل الله تعالى؛ وذلك لما يمثّله هذا الإمام من معرفة عميقة بما يصلِح الأرض والمجتمع. فلا ننسى أنّ الجهل كان أحد أهم أسباب فشل المذاهب البشرية المختلفة في تقديم أطروحة واقعيّة لإصلاح العالم.
صحيح أنّ الأمر لا يبدو هكذا للكثيرين؛ وصحيح أنّ النّاس يرجعون الأسباب إلى انعدام النوايا الصادقة؛ إلّا أنّ المشكلة الكبرى تبدأ من عدم وجود أطروحة قابلة للتصوّر والتّطبيق على مستوى العالم.
وفي مطالعةٍ عميقة وشاملة، لا نجد أي رؤية أو أُطروحة لتغيير العالم قابلة للصّمود أمام الأسئلة الأوّليّة سوى الرّؤية الإماميّة (مركزية وجود الإمام الربّاني). لقد تضمّنت العقيدة الإمامية رؤية عميقة وشفّافة لحلّ المعضلة العالميّة (الظلم، الفقر، الفساد) من خلال تفسير أسبابها وعواملها تفسيرًا عقلانيًّا دقيقًا؛ كما تضمّنت التصوّر الشّامل للوضع النّهائيّ أو ما يُعرف بالمدينة الفاضلة والمجتمع المثاليّ.
وهنا نرجع إلى مسألتنا الأولى ونقول: إنّ ما جرى منذ بداية البعثة النبويّة الشّريفة وإلى يومنا هذا، إنّما كان بشكل أساسي سعيًا حثيثًا لتثبيت مبدأ الإمامة الإلهيّة وقيمتها في المجتمع المسلم. وكل ما كان يحدث هنا وهناك، إمّا أنّه يندرج ضمن الزّبد، الذي لا ينفع الناس (وما أكثره)، وإمّا أنّه كان شيئًا مساعدًا على تقدّم مشروع الإمامة.
لو قُدّر لنا أن نفهم خلفيّات أحداث العالم، وخصوصًا في المجتمعات المسلمة، لأدركنا أنّ مسيرة الإمامة هي التي كانت في القلب وكانت المحور الأساس لكلّ شيء. وكيف لا تكون كذلك، وقائدها هو أعظم إنسان وأقوى موجود على الأرض!
والآن، حين نأتي إلى قضيّة فلسطين والقدس، فلا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنّها كانت منذ البداية حصيلة تفاعل الأمّة الإسلاميّة مع تلك القضيّة الكبرى؛ وستكون في تحوّلاتها وفي مصيرها (الذي يبدو أنّه سيكون مساعدًا على تثبيت ذلك المبدأ العظيم) خطوة أو خطوات نحو ذلك الهدف.
إلى الذين يتمكّنون من رؤية الأمور في أبعادها الإلهيّة، وإلى الذين يقدرون على فهم عمق قضايا الحياة، إن استطعتم أن تتصوّروا عالم ما بعد إسرائيل وفق المشروع الإلهيّ الإسلاميّ هذا، فإنّ هذا سيمكّنكم من استشراف مستقبل هذه القضيّة جيّدًا.
ما الذي قدّمته لنا قضيّة فلسطين من إمكانات لتوعية المسلمين تجاه قضيّة الإسلام الأولى؟ وهل استطعنا أن نربط بين هذه المأساة وردّات فعل المسلمين تجاهها؟
المصدر: موقع إسلامنا