بعض ما ورد عن الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه في تفسير آيات الذكر الحكيم:
المورد الأول:
لقد شغلَتْ الحروفُ المقطَّعة بالَ المفسِّرين، فضرَبوا يميناً وشمالاً، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً.
ولكنَّ الإمام ( عليه السلام ) عالجَ تلك المُعضلة بأحسن الوجوه وأقصرها، إذ قال ( عليه السلام ): (كَذبَتْ قُريشٌ واليَهودُ بالقرآنِ، وقَالوا سِحْر مبين تقوَّلَه).
فَقَالَ اللهَ : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ )، (البقرة : 1 – 2 ).
أي : يَا مُحمَّد، هَذا الكِتَاب الَّذي نزَّلنَاهُ عَليكَ هُوَ الحُروفُ المقطَّعَة التي منها ( أَلِف )، ( لام )، (مِيم )، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأْتُوا بِمِثْلِهِ إنْ كُنتُم صَادِقِين، واسْتَعينُوا عَلَى ذَلِكَ بِسَائِرِ شُهَدَائِكُم.
ثُمَّ بيَّن أنَّهُم لا يَقدرُونَ عَلَيه بِقَولِهِ : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )، ( الإسراء : 88 ).
وقد رُوي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي ( عليه السلام ).
المورد الثاني:
كان أهل الشغب والجدل يلقون حِبالَ الشَكِّ في طريق المسلمين، فيقولون: إنَّكم تقولون في صلواتكم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )،( الفاتحة : 5 )، أو لستُم فِيه ؟! فما معنى هذه الدعوة ؟! أو إنكم متنكِّبون عنه، فتدعون ليهديكم إليه ؟!.
ففسَّر الإمام العسكري ( عليه السلام ) الآية قاطعاً لِشَغَبِهِم، فقال ( عليه السلام ) : ( أَدِمْ لَنَا تَوفِيقَكَ الَّذي بِهِ أطَعْنَاكَ فِي مَاضِي أيَّامِنا، حَتَّى نُطِيعَكَ كَذَلِكَ فِي مُسْتَقبَلِ أعْمَالِنَا ).
ثُمَّ فسَّر الإمام ( عليه السلام ) الصراط بقوله : ( الصِّراطَ المُستَقِيم هو صِراطان : صراطٌ في الدُّنيا، وصراطٌ في الآخِرَة، أمَّا الأوَّل فَهو مَا قَصُر عَنْ الغُلُوِّ، وارتَفَع عَن التَّقصيرِ، واستقامَ فَلَمْ يَعْدِلْ إلى شَيءٍ مِنَ البَاطِلِ. وأمَّا الطَّرِيقُ الآخَرِ فَهوَ طَرِيقُ المُؤمِنِينَ إلى الجَنَّة، الَّذي هُو مُستَقِيم، لا يَعدِلُونَ عَن الجَنَّةِ إلَى النَّارِ، وَلا إلى غَيرِ النَّارِ سِوَى الجَنَّة ).
وكان قد استفحل أمرُ الغلاةِ في عصر الإمام العسكري ( عليه السلام )، ونَسَبُوا إلى الأئمَّة الهُداة أموراً هم عنها برَاء.
ولأجل ذلك يركِّز الإمام علي ( عليه السلام ) على أنَّ الصراط المستقيم لِكلِّ مسلمٍ هُو التجنُّب عن الغلوِّ والتقصير.
المورد الثالث:
ربما يغترُّ الغافلُ بظاهر قوله سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ )، ( الفاتحة : 6 ).
ويتصوَّر أنَّ المراد من النعمة هو المَالُ والأولادُ وصِحَّة البدن، وإنْ كان كُلُّ هذا نعمة من الله، ولكن المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )، (الفاتحة : 6 )، هُو نِعْمة التوفيق والهداية.
ولأجلِ ذلك نَرى أنَّ الإمام العسكري ( عليه السلام ) يفسِّر هذا المعنى بقوله : ( قُولُوا : اِهْدِنَا صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَليهِمْ بالتَّوفِيقِ لِدِينِكَ وَطَاعَتِكَ، وَهُم الَّذينَ قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )،( النساء : 69 ).
ثُمَّ قال ( عليه السلام ) : ( لَيْسَ هَؤلاَء المُنعَم عَلَيهِم بالمَال وصِحَّة البَدَن، وإنْ كَانَ كُلُّ هَذا نِعْمَةٌ مِن اللهِ ظَاهِرَة ).
المورد الرابع:
لقد تفشَّتْ آنذاك فكرة عدم علمه سُبْحانه بالأشياء قبل أن تُخلق، تأثُّراً بتصوِّرات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة عن اليونان.
فيقول محمد بن صالح : سألتُه عن قول الله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )، (الرعد : 39 ).
فقال الإمام العسكري ( عليه السلام ) : ( هَلْ يَمحُو إلاَّ مَا كَانَ، وَهَلْ يُثبِتُ إلاَّ مَا لَمْ يَكُنْ ).
فقلتُ في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي : أنه لا يعلم الشيء حتى يكون.
فنظر ( عليه السلام ) إليَّ شزراً، وقال : ( تَعَالَى اللهُ الجَبَّارُ العَالِمُ بالشَّيءِ قَبلَ كَونِهِ، الخَالِقُ إذْ لا مَخْلُوق، والرَّبُّ إذْ لا مَرْبوب، والقَادِرُ قَبْل المَقْدُورِ عَلَيه ).
المصدر: شفقنا