الآخر وإلفة الفكر والحياة

الثلاثاء 17 أكتوبر 2017 - 06:25 بتوقيت غرينتش
الآخر وإلفة الفكر والحياة

مقالات - الكوثر

الفكر والحياة حقيقتان، أو إن شئت فقل: قيمتان من القيم الواقعيّة القابلة للتوظيف بحسب منطلقين:

المنطلق الأوّل: وهو الناشئ من طبيعة بؤرة المعنى – حسب قوانين حركة التأويل – فهل محور بؤرة المعنى يرتكز على مقتضيات ودلالات الحسّ والجسد؟ أم أنّها طوباويّات تريد بناء هرم من الأحلام المنفصلة عن سيرورة الإنسان والأحداث؟

هل محور المعنى يخضع لجبريّة الواقع الذي تفرضه سلطة السطوة؛ ولو تحت عناوين العقلانيّة والواقعيّة؟ أم أنّها مشدودة نحو المثال المتبلور بنظم من المثاليّات المفرطة؟

وأخيرًا، هل يمكن لنا تثبُّت بؤرة المعنى من علاقة الواقع بالمثال؟ وهكذا نتلمّس إيجابيّات جدل الفكر والحياة؛ كما وجدل الفلسفة والتصوّف؟ والجدل هنا ليس ممّا اعتادت أفق العقليّة الغربيّة على طرحه ضمن منظومة هيجيليّة من فرض نقيضين ينتجان بانعدامهما وجودًا ثالثًا يعاود إنتاج عدمه، ليعاود مجدّدًا فرض وجود محكوم بعدمين مُعدمَين.

بل هو الجدل المستفاد من حواريّة قدسيّة الدين مع نوازع وقائع الفكر والحياة، والتي تُخرج مكامن الباطن إلى الظاهر. فيؤسّس من الظاهر عتبة ولوج تكاملي نحو باطن كامن جديد يترقّى بمدارج الرفعة والتطهّر والسموّ ليرسم معالم عقل العبرة، وفلسفة السؤال المفتوح، وقلب العارف المشرّع على كلّ فيض وصورة وليكدح الكلّ مشدودًا نحو المثال الأعلى والمطلق الكامل.

فتكون كلّ فكرة وكلّ حياة تقصد الواحد، رغم كثرة مصاديق ما تتلبّس به من خير أو شرّ، وليكون بذلك باب الرحمة والأمل الإنسانيّ موصولًا بباب الحبّ والعشق الإلهيّ. فلا الكفر، ولا الجحود الإلحاديّ، ينطوي على قيمة الثبات الجوهريّ، بل هي أعراض زائفة يُنتظر لها الذوبان في حضرة قيم الحقّ الإلهيّ الساري سريان الرحمة والوجود في كلّ شيء موجود، وفي فكرة كلّ توجّه يبتغي وجه القسط والعدل.

ومهما استطال النكران والسلب والنفي المُعدم للآخر، فإنّ سنّة وقانون الخير سيحسم النتائج بعودة الالتحام بين المتضادات، إذ ليس من مصير مرسوم للتجافي والاختزال إلّا إعدام الذات عند إعدام الآخر،.. {الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ[1]}. ونسيان الله إنّما يكون بنسيان حقّ المختلف من الناس والثقافات والطبيعة وحضارة الأمم والشعوب المجعولة على أرضيّة الاختلاف ابتغاء التعارف، والتعارف عنوان قيمة السلام والحبّ والحياة باعتبارها منازل ربّ الحياة وربّ السلام.

 

المنطلق الثاني: وهو المتمثّل بما يمكن أن نسمّيه “إرادة الاقتدار”. والاقتدار هنا رفض لكلّ صنوف المهانة والرقّ واستباحة الذات أمام الآخر، في الوقت الذي هو رفض لعنف الذات تجاه الآخر، سواءً أكان بحرمانه حقّ المعتقد أو الضمير أو الوجود على ساحة الحياة أو الانتماء إلى هويّة يختارها.

وفارقٌ هائل بين القوّة بما هي سطوة وسيطرة وقمع يفرض التدمير والاحتراب، ويبيح التقتيل والإفقار، ويختزل الإنسان وحقّ تملّك منابع النموّ والرفاه وتسخير ما بسطه الله لكافّة عباده من رزق ودين ووطن وانتماء..

وبين الاقتدار بما هو طاقة إنتاج للذات، ودفاع عن حقّ مغتصب، وجدال بالّتي هي أحسن مع من تختلف معه، ابتغاء أن تتحوّل الهويات والحضارات والجماعات بما فيها المتخاصمة؛ كأنها وليٌ حميم.. وليٌ تعاضده إذ يعاضدك، وتثاقفه إذ يثاقفك وتتكاملان رغم الاختلاف بحق ارتباطكما الإنساني..

إرادة الاقتدار هذه مشروطة بعلاقة جدلية بين عنفوان الرفعة، والاتِّضاع أمام الحقّ أنّى كان مصدره “اللهم ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها[2]“..

الرفعة هنا ليست استكبارًا، بل هي قصدٌ لوجه الحقّ. والحطّة هنا، ليست انهزامًا، بل هي اعتراف الذات بالمختلف، وأنّ له ما لك وعليه ما عليك.

وهذا سبيل تشكيل الهويّة على قاعدة أنّ الآخر شرط قيميٌّ وشرط معنى للذات. إذ لا هويّة أحاديّة مجرّدة متعالية ومفصولة؛ بل الهويّة هي إرادة للذات وإرادة تواصل مع بناءات الذات من إبداعاتها ومن محيطها الثقافيّ والعقيديّ والحضاريّ المؤتلف والمختلف. من هنا لا سبيل للتكامل إلّا بمثل هذا الاعتراف المنتج لحوار الحياة والفكر والبرهان والوجدان، والرافع لصرح بناء مجتمعات العيش الوطنيّ المتسالمة بقيم العدالة والمساواة والحرية، والمسترشدة بهدي الرحمة والحبّ الإلهيّين.

ومن رحم المعنى والاقتدار تتولّد لدينا إرادة قبول الآخر بسلام. ومن قبول الآخر تسمو الفكرة وتسمو الحياة؛ ومن السموّ نرتقي سلّم اكتشاف المجهول الذي يكمن خلف دهشة الفيلسوف وسؤاله المتجدّد.

ونتّصل عيانًا مع نور الحقّ النابع من قلب الإنسان العارف والمتوحِّد مع نور كلّ نور وبصيرة كلّ متبصّر..

والتبصّر يتسق مع قيمتين مقوَّمتين لإنسانيّة الإنسان والحضارة الناهضة، وهما:

الأولى: الهداية بما تعنيه من هدي وحيانيّ يظلّل الناس بقيم الدين الهادية للروح والقلب والعقل والأخلاق والسلوك المجتمعيّ والسياسيّ؛ وبها تنفتح الإرادة على صوابيّة نهج سير المسؤوليّة وواجبات الاختيار.

الثانية: الحريّة، وهي التي يرفع عنها هدي الدين الإصر والأغلال، كما ويكبح جماح الانفلات فيها، بحيث لا تتحوّل إلى منطق استعلائيّ ربوبيّ يتلبّسه الإنسان فيمارس تحت شعارها القهر للآخر عبر استعباده أو الاستقواء عليه.

في الوقت الذي تتكامل فيه الحريّة مع الهداية ببناء مجتمع المواطنة؛ خاصّة في مجتمعات متعدّدة الانتماءات؛ لترسم قواعد القانون بروح قيم الهداية الدينيّة وآليّات حريّة التنظّر العقليّ الباحث بحريّة في آليّات صنع الحريّة المجتمعيّة لوطن أو لقوم أو لأمّة.

فيكون بذلك الوطن حاضنةً للإنسان في هدي ما يعتقد وحريّة ما يمارس وما يشارك بصنع وجه الوطن في هويّته ومساراته.

ولعلّ الحديث عن الوطن يضعنا أمام إشكاليّة ثنائيّة. فمن جهة أولى، ما زال هذا المفهوم يلبس طابع الغموض أمام اجتهادات التفكُّر الدينيّ، ذلك أنّ أصحاب الأديان بنوا منظوماتهم الاعتقاديّة، والفقهيّة على أسس من الانتماء العقيديّ وناظم الأمّة. ولم يجترحوا إلى الآن حلًّا للوفاق بين هذه الأسس وبين حاجة الواقع الإنسانيّ بالانتماء إلى الوطن.

أقول هذا وكلّي أمل بالأفق الاجتهاديّ الذي باتت إرهاصاته تعدنا بخوض غمار هذه التجربة التي نأمل أن تؤسّس لنهوض فكريّ يفتح كلّ الزوايا نحو العيش الوطنيّ الكريم.

ومن جهة ثانية، فإنّ الهداية تفتح عيون التبصُّر نحو انطلاقة لمعايشة الآخر من الإنسان والوطن الذي تسود العلاقة معه مبادئ حقّه في العيش والرفاة والنموّ المزدهر والكريم، بحيث تكون الجوامع مبنيّة على رشد ما قاله الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) “الناس صنفان إمّا أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق[3]“. فالقدر المتيقن في الجامع المشترك هو الإنسانية وأنظمة حقوقها؛ والقدر الخاص هو جامع الدين الباني للأمة…

فكيف يمكن لمثل هذا التبصُّر أن يجمع ويثاقف بين الوطن كخصوصيّة نسبيّة والدين والإنسان كحالة شاملة؟

أختم هنا لأقول إنّ ما أراه بحسب فهمي للدين والإنسان في متطلّباتهما، وبين الانتماء الوطنيّ في ضروراته أنّ قيم الهداية والحريّة كفيلةٌ بصنع وجدان إنسانيّ يلتزم وطنيته دون أن تتحوّل إلى صنم يعيق تمدّد الوجدان نحو العيش مع انتماءات وخصوصيّات قوميّة بل وعن العيش مع الإنسان بما هو إنسان يمثّل سرّ الله المطلق في خليقته.

الإنسان بما هو آلام وطموحات وآفاق لا تعرف في مديّاتها الحدود. وهو بما هو آلام وتنكّبات أرهقتها المآسي والفقر والحرمان والحروب.

الإنسان بما هو حقّ في العيش، وغاية لكلّ مطمح وسمنّاه بالدينيّ أو العلمانيّ، واتسم بالإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة والهندوسّية وغيرها.

فعند الإنسان الذي هو خطاب الله وكلمته وخلاصة وسرّ مقاصده وتدبيره، تصغر كلّ العناوين التي افتعلناها بجهد غواياتنا وتمرّدنا ورغبات السيطرة التي سيطرت علينا. عنده تصغر الأنا الفرديّة أو الجماعيّة كما وتصغر الـ ” أنت” بكلّ محاميلها.

وعنده الحدّ الفاصل لمسؤوليّاتنا التاريخيّة الكبرى أمام الأجيال القادمة، وأمام الزمن القادم الذي نمثّل فيه بين يدي ربّ العالمين حينما يقول: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ[4]}.

*الشيخ شفيق جرادي

---------------------------

[1] سورة الحشر، الآية 19.

[2] الصحيفة السجّاديّة، الإمام زين العابدين (ع)، (مؤسّسة الإمام المهدي (عج)، قم، 1411هـ) الطبعة 1، الصفحة 110.

[3] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، شرح الشيخ محمّد عبده (دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان)، الجزء3، الصفحة 84.

[4] سورة الصافات، الآية 24.