في البداية، واجه هؤلاء الرسول والفئة المؤمنة بأبسط الأسلحة العدوانيّة: الهمز واللّمز والاستهزاء. ثمّ عمدوا إلى أسلحة أشدّ وأفتك كلّما ازدادت الحركة التوحيديّة قوّة وبلورة. وهكذا كرّرت هذه الجبهة المضادّة خلال الأعوام الثلاثة عشر قبل الهجرة تلك المشاهد المخزية في تاريخ الصراع بين الحقّ والباطل.
هذه الحقيقة التاريخيّة تستحقّ مزيدًا من الدقّة والإمعان، لأنّها تشكّل مؤشّرًا هامًّا للتعمّق في فهم الإسلام، وفي فهم التوحيد الذي يشكّل العمود الفقريّ للإسلام.
إنّه لمؤسف جدًّا، بل إنّها لمأساة لكلّ دعاة تحرير الإنسان أن نشهد انحراف مفهوم التوحيد في عصرنا. فهذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتّجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشريّة المعذّبة على مسرح التاريخ.
وقد عملت الرسالات الإلهيّة عامّة خلال التاريخ، على ما نعلم، على تغيير المجتمع، ودفعه في اتّجاه يخدم مصالح الإنسان وينقذ المستضعفين والمسحوقين، ويقضي على كلّ مظاهر الظلم والتمييز والعدوان. فالمحتوى الأخلاقيّ لكلّ الأديان الكبرى – كما يقول أريش فروم – يتكوّن من التطلّع نحو العلم، والحبّ الأخويّ، والتخفيف من الآلام، والاستقلال، والشعور بالمسؤوليّة. وهناك طبعًا تطلّعات سامية شريفة أخرى لا نتوقّع من باحثٍ مادّيٍّ أن يدركها.
كلّ هذه التطلّعات والآمال تتلخّص في مبدأ التوحيد. والأنبياء كانوا يطرحون كلّ أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحقّقون تلك الأهداف أو يمهّدون لتحقيقها في أعقاب كفاحٍ ينشب تحت راية هذا الشعار.
وإنه لمؤسف حقًّا لا للموحّدين فحسب، بل لكلّ المتبنّين لهذه الآمال والأحداث، أن يبقى محتوى التوحيد مجهولًا أو محرّفًا أو سطحيًّا لا يتجاوز الإطار الذهنيّ، خاصّة في عصر تتصاعد فيه ضرورة الاتّجاه نحو تلك الأهداف أكثر من أي وقت مضى.
ذكرنا أنّ المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامّة بشأن مفهوم التوحيد. هذه الحقيقة هي: إنّ شعار "لا إله إلّا الله" اتّجه أوّلًا لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادوه، وهم أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.
كما أنّ ردّة الفعل التي يبديه خصوم كلّ حركة في المجتمع تعبّر دومًا بوضوح عن الاتّجاهات الاجتماعيّة لتلك الحركة، ومدى عمق تأثير هذه الاتّجاهات. ويمكن فهم الاتّجاه الطبقيّ والاجتماعيّ للحركة من خلال دراسة طبيعة أعدائها وانتماءاتهم الطبقيّة، وقياس عمق تأثيرها عن طريق فهم مدى تصلّب الأعداء تجاهها.
من هنا، فإنّ دراسة جبهة أتباع الدعوات الإلهيّة وجبهة أعدائها، واحدة من الطرق الموثوقة في فهم هذه الدعوات بشكل صحيح. فحين نشاهد أنّ الفئات المقتدرة كانت دومًا سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهيّة، نفهم بوضوح أنّ هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجبّرها وترفها، بل تعارض أساسًا هذه الطبقيّة التي جعلت هذه الفئات متميّزة عن غيرها.
وقبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار؛ منظار مقارعته لكلّ ألوان السيطرة الاجتماعيّة، لا بدّ من الإشارة أوّلًا إلى أنّ التوحيد لا ينحصر في إطار نظرة فلسفيّة ذهنيّة كما هو شائع، بل هو نظريّة أساسيّة حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ للحياة.
ويندر أن نجد في قواميس الألفاظ الدينيّة وغير الدينيّة لفظة مثل لفظة التوحيد في استيعابها للمفاهيم الثوريّة البنّاءة، ولأبعاد الحياة الاجتماعيّة والتاريخيّة للإنسان. فلم يكن من الصدفة أن تبدأ كلّ الدعوات والحركات الإلهيّة في التاريخ بإعلان توحيد الله وحصر الربوبيّة والألوهيّة به.
روح التوحيد رفض عبوديّة غير الله، الإمام الخامنئي (دام حفظه)