الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه الحبيب المصطفى محمد وعلى آلة وسلم
ان الشح بالنفس والبخل عليها وامساكها عن الهوى والانجرار وراء الانحرافات لها وسائل ومستلزمات ومعايير تحكيم وسيطرة: من هذه الوسائل التقوى
قوله (عليه السلام) (أمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ )[1]
التقوى لغة: قال الراغب الاصفهاني في المفردات (وقى: الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره, يقال: وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء. قال (فوقاهم الله, ووقاهم عذاب السعير, ومالهم من الله واق, مالك من الله من ولي ولا واق, قوا انفسكم وأهليكم نارا, والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف, هذا تحقيقه وصار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عما يؤثم, وذلك بترك المحظور ويتم ذلك بترك بعض المباحات, لما روي: الحلال بين والحرام بين, ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه)[2]
والتقوى اصطلاحا: (عبارة عن الاجتناب عن محارم الله تعالى, والقيام بما اوجبه عليهم من التكاليف الشرعية, والمتقي هو الذي يتقي بصالح عمله عذاب الله, وهو مأخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله حاجزا بينه وبينه, كما يقال: اتقي السهم بالترس, أي جعله حاجزا بينه وبين السهم )[3] اين المصدر؟
والتقوى بعد الايمان, التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الالهي وعذاب النار, وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي اوعد الله عليها النار , فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب, وينطبق على قوله سبحانه (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا )[4] ,(... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[5], (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)[6]
فيظهر من الآيات الشريفة ان التقوى هي الورع عن محارم الله, أي المعاصي الكبيرة)[7].
أقول: والمحصل من تعاريف (التقوى) لغة واصطلاحا هو انها السور الذي يسور الانسان به نفسه من الوقوع في الحرام والرذيلة والمعصية.
او هي حق الله على العباد, فهو الذي خلقنا ومنحنا كل شيء وتنعم علينا بنعم كبيرة, وفي مقابل ذلك أراد منا ان نلتزم ونتقي بتحصين انفسنا والمحافظة على الاطر والموازين الشرعية التي ارادها الله وقدرها للبشر.
ويشير الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الى هذا المعنى بقوله (أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها حق الله عليكم ، والموجبة على الله حقكم . وأن تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله . فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة ، وفي غد الطريق إلى الجنة . مسلكها واضح ، وسالكها رابح ، ومستودعها حافظ . لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد الله ما أبدى ، وأخذ ما أعطى ، وسأل ما أسدى)[8]
والتقوى تؤدي الى عزة الانسان, لأنه يتصل بالعزيز المطلق, يقول الامام علي (عليه السلام)( التقوى تجل . و الفجور يذل)[9] فالذلة في الفجور والعزة الانسانية في التقوى.
وقال امير المؤمنين (عليه السلام)(لا عزة اعز من التقوى)[10] فمن اراد العزة والكرامة ان يتصف بالتقوى.
وقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) اهتماما كبيرا لمسألة التقوى في إحدى خطبه.
( فإن تقوى الله مفتاح سداد , وذخيرة معاد, وعتق من كل ملكة, ونجاة من كل هلكة, بها ينجح الطالب , وينجو الهارب , وتنال الرغائب )[11]
وعنه (عليه السلام) الحث عليها (فإنّ تقوى اللَّه دواء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء عشى أبصاركم وأمن فزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم .)[12]
ولذلك نجد ان أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما يتحدث عن المنظومة القيادية وعن النجاح في الدور القيادي, يقف عند خصيصة التقوى ويعتبرها مفتاح التسديد والنجاح وذخيرة يوم الآخر الذي لا ينفع فيه مال ولابنون.
فينبغي هنا التميز بين صنفين من التقوى:
1ـ التقوى الشخصية
ويراد منها التحكيم بمسارات الانسان وخطواته فيما يرتبط بحياته الشخصية, وتشمل الاحكام الالهية التي تتعلق بعمل المكلف فيما ينبغي فعله ومالا ينبغي فعله .
2ـ التقوى السياسية
وهي التي تتحكم بالدور القيادي لمن يتصدى الى المسؤولية وقيادة الامه , في أي مستوى من مستويات التصدي , فالتقوى هنا تتحكم بسلوك الشخصية القيادية والدور القيادي والاداء القيادي بالشكل الذي ينسجم مع الحياة الاجتماعية, لأن الانسان في مواقع المسؤولية وفي مواقع الخدمة العامة, اذا لم يراع التقوى السياسية فانه سيصاب بهوس السلطة وشهوة القدرة, والنفوذ والفتك بالأخرين, فتتجلى وتتجسد الانا بشخصية بأروع صورها .
وهذا ما اشار اليه القران الكريم (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* ان رَّآهُ اسْتَغْنَى)[13]
وحينما يتحدث القران الكريم عن فرعون يستعرض الانا الفرعوني في كيفية تعامله وهو في موقع السلطة , عندما يفرض رؤية وقناعة ويعتبر حياة الناس بيده .
(فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)[14] ويؤكد القران الكريم على التقوى السياسية وعلى المستوى الثقافي الديني للبشر(تلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[15] عدم العلو على الناس وعدم الفساد في الارض هو الفوز في السعادة الابدية.
وقال رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) (ومن أم قوما إمامة عمياء ، وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر)[16]
وقال (صلى الله عليه وآلة) : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلف وإذا كان ضالا جاز قسمة ماله[17]
فيتحصل:
من معنى الحديثين الشريفين ينبغي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب من ذو الاختصاص والكفاءات والامكانيات العلمية والتخلي من الاطر الشخصية والمحسوبية على مستوى جميع مرافق الدولة.
فثقافة اختيار الاصلح والاكفأ لإدارة امور الناس , يجب ان تكون هي الحاكمة على الثقافة الخاطئة التي يسعى الجميع في ظلالها الى ان يكونوا في الصدارة وهذا معناه تجاوز على الثقافة الاسلامية في ادارة المنظومة الإدارية.
يقول الامام (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر(رضوان الله عليه) في كيفية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب على وفق الرؤية الاسلامية , (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ وَمِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ )[18]
*الشيخ سجاد الربيعي
الهوامش:
[1] نهج البلاغة: 53
[2] المفردات في غريب القران: الراغب الاصفهاني: ص530 مادة :( وقى)
[4] النساء: 31
[5] الطلاق: 5
[6] المائدة: 65
[7] الميزان في تفسير القران: العلامة الطبطبائي: ج19: ص317
[8] نهج البلاغة : خطب الإمام علي ( ع ) الجزء : 2 ص124
[9] عيون الحكم والمواعظ: 34
[10] نهج البلاغة: الحكمة 371
[11] نهج البلاغة خطبة: 230
[12] نهج البلاغة خطبة: 198 وينظر تفسير المحيط الأعظم والبحر الخظم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم : السيد حيدر الآملي الجزء : 1ص273
[13] العلق : 6,7
[14] النازعات :24
[15] القصص :83
[16] الصراط المستقيم : علي بن يونس العاملي النباطي البياضي الجزء : 3 ص135. وينظر بحار الانوار: ج22: ص487: ح31
[17] مختلف الشيعة : العلامة الحلي الجزء : 4 ص452و ينظر: تهذيب الأحكام : ج 6 ص 148 - 151 ح 261 ، وسائل الشيعة : ب 9 من أبواب جهاد العدو ذيل ح 2 ج 11 ص 29 .
[18] نهج البلاغة: 53