3ـ نظريّة الهروب من الموت
توجد أيضاً بعض الآراء التي تعتقد بأنّ هجرة الإمام الحسين لم تكن بهدف معانقة الموت، بل كانت هروباً منه. فبحسب هذا الرأي كان الإمام الحسين(عليه السلام) يُعاني في المدينة من بعض الأوضاع التي أدّت في النهاية إلى استشهاده؛ ولهذا السبب اختار(عليه السلام) الهجرة إلى الكوفة.
ويمكن الدفاع عن هذا الرأي بالإشارة إلى تشتُّت الموالين للإمام الحسين، الذين كانوا بشكل عامّ في الكوفة، بحيث إنّ المدينة كانت تفتقد مثل هذه المكانة. فبالنظر للظروف التي كان يعيشها من المنطقي جدّاً أن يُفضّل الإمام الكوفة على المدينة. ويقول أحد المعاصرين: لقد كان خروج الإمام الحسين(عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة باتجاه العراق؛ من أجل المحافظة على روحه، ولم يكن تمرّداً، ولا ثورةً، ولا حرباً ضدّ العدوّ، ولا بهدف إقامة نظام للحكم([32]).
الإشكال الموجَّه إلى هذه النظريّة
لأوّل وهلة تبدو نظريّة الفرار من الموت مسألة غامضة. ويكمن هذا الغموض في أنّه بإمكاننا عرض الموت بنحوين: الأوّل: موتٌ باهت، وذو أثر ضعيف، والثاني: موتٌ مؤثِّر، ومقارن لتحوّلات اجتماعيّة عميقة. فإذا كان المقصود من الموت هو النحو الأوّل فإنّ الشواهد التاريخيّة، التي بين أيدينا، تحكي بشكلٍ واضح عن إهمال هذه النظريّة وضعفها؛ حيث إنّ الإمام الحسين سعى في حالات معيَّنة إلى الهروب من هذا النوع من الموت.
وكمثال على ذلك: السياسة الواضحة التي تبنّاها في المدينة، والتي كان الهدف منها الفرار من الموت الهادئ والمكتوم على يد يزيد. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا النحو من الفرار يُعدّ جزءاً من مشروع أكبر كان يسعى من خلاله الإمام الحسين إلى بلوغ أهداف أخيرة، قد يكون أحدها عبارة عن موتٍ نبيل، ذي آثار بالغة، أو تأسيس حكومة.
بحسب هذا التفسير لنظريّة الهروب من الموت ستعاني هذه النظريّة من التعارض الداخلي والانغلاق؛ لأنّه لا يمكننا بحالٍ من الأحوال أن نعدّ هذا النحو من الفرار من الموت هدفاً للثورة، وأن نفسِّر نهضة الإمام الحسين ـ من خلال الإصرار على هذا الأمر ـ بأنّها كانت سعياً وراء الموت «التملُّصي».
وهذا النوع من الفرار والهروب إذا لم يكن في حدّ ذاته ممهِّداً لموتٍ أوسع دائرة وأكبر تأثيراً فقد كان ـ على الأقلّ ـ وسيلة للوصول إلى أهداف أخرى، من قبيل: تأسيس الحكومة.
وأمّا إذا كان المقصود من الموت هو النحو الثاني فينبغي علينا التأمّل في المسألة بشكلٍ أكبر. وتدلّ المشاهد المهمّة من واقعة كربلاء، والعديد من المواقف التي اتّخذها الإمام الحسين، على طلبه وسعيه للشهادة. ويبدو أنّه تمّ التركيز على رغبة الإمام الحسين في الفرار من الموت العَبَثي. هذا على الرغم من حضور ثقافة استشهاديّة غنيّة على مستوى كربلاء. لكنّ هذا لا يعني بأنّه(عليه السلام) كان يسعى بالضرورة نحو الشهادة. فما يظهر من ذلك هو مجرّد أنّ الإمام الحسين لم يكن في صدد الهروب من موتٍ نبيل، وذي أثرٍ بالغ، مع أنّه من الممكن أن يكون قاصداً إحدى هاتين الحالتين: إمّا الشهادة ـ التي تقف في مقابل ما تهدف إليه نظريّة الفرار من الشهادة ـ؛ وإمّا إقامة الحكومة.
4ـ نظريّة الأهداف المتوازية (نظريّة الشهيد مطهّري)
في الوقت الذي يمكننا تصنيف النظريّات المطروحة حول حادثة كربلاء من خلال التركيز على النقاط المشتركة بينها، فإنّ نظريّة مطهّري تفتح آفاقاً جديدة أمام دراسة عاشوراء. وقبل أن يكون مطهّري عالم اجتماع، مؤرِّخاً، فقيهاً، وباحثاً في القضايا الدينيّة، كان فيلسوفاً، ينظر إلى المسائل الاجتماعيّة بذهنيّة فلسفيّة، وبالاستفادة من قدرات تحقيقيّة هائلة، وعموماً كان يُخضع نظرته تلك إلى إطار منضبط ومنظَّم.
هذا السعي الدائم من قِبَل مطهّري نحو الاهتمام في مختلف المجالات بالمعارف المرتكزة على المنطق والعقل أدّى به على مستوى التحليل لنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى القيام بدراسة جذريّة حولها، وإنجاز تحقيق لم ينحَزْ فيه إلى أيّ نظريّة من النظريّات الأخرى، وإلى عرض الإشكاليّات العامّة المطروحة على تلك النظريّات.
فبعد أن يُبيِّن العديد من الاحتمالات المطروحة حول تحليل واقعة كربلاء ـ والتي يشتمل عليها قسم مهمّ من النظريّات الأخرى ـ يُشير مطهّري إلى الخلل الرئيسي الذي تُعاني منه جميع هذه النظريّات.
والنقطة الأساسيّة التي يتعرّض لها مطهّري تكمن في عجز هذه النظريّات عن التوفيق بين المبادئ التي تؤمن بها وبين حقيقة حادثة كربلاء؛ حيث اكتفت كلّ واحدة منها بالإشارة إلى أجزاء الواقعة التي تحكي عن صحّة دعواها، من غير أن تعطي صورةً كاملة عن الواقعة بتمامها. وقد برز ضعف النظريّات المطروحة حول عاشوراء حين تمّت مقابلتها مع مختلف الشواهد المستخلَصة من تلك الحادثة.
ففي الوقت الذي شكَّلت فيه هذه الشواهد نقطة قوّة، ومرتكزاً أصليّاً لإحدى النظريّات، عُدّت علامةً على ضعف نظريّة أخرى وعجزها.
ولهذا السبب اهتمّ قسمٌ من المساعي التي بذلها مطهّري ببيان هذا النوع من الضعف الذي عانت منه النظريّات السابقة(33). ومن خلال تجاوز مسألة النزوع في عاشوراء نحو هدفٍ مطلق فقد سعى مطهّري إلى استبدال الهدف الواحد بمجموعة من الأهداف.
وفي اعتقاده فإنّ عاشوراء لم تنتج من خلال السعي نحو هدفٍ واحد، بل هي حصيلة لاستقصاء مجموعة من الأهداف المتوازية والمتعدّدة، التي من الممكن أن يختلف مجال عملها وظرف تأثيرها. فبعض هذه الأهداف عاجلٌ جدّاً، ولإسكات الناس، أو حتّى المرافقين للإمام الحسين([34])، وبعضها للتأثير في الأوضاع السياسيّة المعاصرة([35])، وبعضها لإحداث آثار تاريخيّة وطويلة الأمد([36]).
عرضٌ وتحليل لنظريّة الشهيد مطهّري
عند القيام باستعراض نظريّة الشهيد مطهّري وتحليلها يجدر بنا الالتفات إلى النقاط التالية:
أـ لا يعني تعدّد الأهداف عند مطهّري الإيمان بأهداف بديلة، كما اعتقدت بذلك بعض النظريّات السابقة. فالأهداف التي يُؤمن بها مطهّري هي في الواقع ليست أهدافاً تتحقّق في مرحلة معيّنة، ومقاطع زمانيّة منفصلة، وإنْ أمكن مشاهدة تأثيرها في مقاطع معيّنة. وقد سعت النظريّات التي تعتقد بالأهداف البديلة ـ وخصوصاً نظريّة صالحي النجف آبادي ـ إلى الخوض في بيان التضادّ الحاصل بين الأحداث والتحوُّلات من جهة والإجراءات والمواقف التي اتّخذها الإمام الحسين من جهة أخرى. وعليه يكون الإمام الحسين عند اتّخاذه للقرارات ـ بحسب نظريّة الأهداف البديلة ـ متأثِّراً بالظروف، وواقعاً تحت تأثير التحوّلات الطارئة، ومنفعلاً بها، شأنه في ذلك شأن أيّ فاعلٍ حكيم آخر.
وأمّا من وجهة نظر مطهّري فالإمام الحسين (عليه السلام) هو في منتهى الفعاليّة. وإذا ما وُجدت شواهد على خلاف ذلك فلأنّه كان عازماً منذ البداية على تحقيق أهداف مختلفة، لا أنّها نشأت مع الأحداث وتغيُّر الأوضاع.
ويعتقد الشهيد مطهّري أنّ الإمام الحسين كان يصبو في واقعة كربلاء نحو تحقيق أهداف ثلاثة، وهي:
أوّلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعتبر الشهيد مطهّري أنّ أوّل أهداف الإمام الحسين وأهمّها وأبرزها هو العمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: التملّص من مبايعة يزيد: كان مطهّري يرى بأنّ التهرّب من مبايعة يزيد هو أحد الأهداف التي سعى إليها الإمام من الهجرة إلى مكّة؛ لأنّ أجواء البيعة والرضوخ لسلطة يزيد كانت هي الحاكمة على المدينة في ذلك الوقت.
ثالثاً: الاستجابة لدعوات أهالي الكوفة: يعتقد الشهيد مطهّري بأنّ ثالث تلك الأهداف يكمن في استجابة الإمام الحسين لدعوة الناس([37]). وفي الواقع فإنّ هذا الهدف يُبرز الدور العرفي الذي يلعبه الإمام الحسين في المجتمع.
وتحتوي نظريّة مطهّري على نوعٍ من المقارنة بين الأهداف، حيث تُقيّم هذه الأهداف الثلاثة بطريقةٍ يكون فيها الهدف الأوّل أهمّ من الثاني، والثاني أهمّ من الثالث.
ب ـ يعتقد مطهّري ـ كما أشرنا ـ أنّ من أهداف الإمام التمرّد على بيعة يزيد. ويبدو أنّه من الممكن الاستعانة بأحد هذين الدليلين من أجل الإثبات المنطقي لهذه الدعوى:
الأوّل: تُعدّ مسألة مغادرة مكّة، والاستعجال في الخروج منها، علامة واضحة على التمرّد على أمر يزيد بالمبايعة؛ إذ إنّ يزيد كان قد طلب من حاكم المدينة أن يرسل له واحداً من اثنين: إمّا رأس الإمام الحسين؛ وإمّا عقد بيعته. وحين يصدر أمر بهذه الصراحة من الطبيعي أن يُعدّ الخروج عن دائرة طاعة ممثِّل الخليفة دليلاً واضحاً وعلامةً بيِّنة على رفض البيعة. فمن خلال هذا العمل قام أعداء الإمام بتوفير المبادرة اللازمة لصنع الوضعيّة التي يرغبون فيها.
وبيان ذلك: إنّ يزيد ـ خلافاً لمعاوية ـ لم يكن مطَّلعاً على التعقيدات السياسيّة، ولم يكن يسعى إلى تحقيق أهدافه من خلال وضع برامج مرحليّة؛ ولهذا السبب كان يتصرَّف بسطحيّة في أغلب قراراته السياسيّة، دون أن يفكّر في عواقب ذلك وتبعاته.
الثاني: لم يكتفِ الإمام الحسين من خلال مغادرته للمدينة، وتوجّهه إلى مكّة ـ وخصوصاً عندما تحرّك باتّجاه الكوفة ـ، بردِّ بيعة يزيد، بل أقدم كذلك على الثورة ضدّ حكومته. وفي الوقت الذي طلب يزيد البيعة من الإمام الحسين خطا الإمام خطوة نحو الأمام، فإضافة إلى عدم إجابته إلى البيعة قام بطلب البيعة لنفسه، وأعلن الخروج على حكومة يزيد.
وعلى هذا فقد كان خروجه× من المدينة خروجاً على الحاكم المستبدّ وحكومته، بحيث شكّل ذلك الخروجُ مَظهراً لرفضه بيعة يزيد. والأمر الذي يحوز على أهميّة قصوى في مثل هذه الظروف هو التمرُّد ضدّ حكم يزيد، لا مغادرة المدينة. هذا مع أنّ الخروج من المدينة يُعدّ الشرارة الأولى التي أشعلت نار التمرُّد على أوامر يزيد وإرادته.
ج ـ عندما نتحرّك على مسار الأهداف التي تعرّض لها الشهيد مطهّري نصطدم بحصول تغيّر ملموس من الحالة الوظيفيّة إلى الحالة الإجرائيّة، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من أن تتمتّع الأهداف الأولى ـ من حيث القيمة ـ بأهمّية أكبر بالنسبة إلى الأهداف اللاحقة.
وبيان ذلك: إنّ الهدف الأوّل يحتوي على جنبة تصوُّرية واعتقاديّة صرفة، في الوقت الذي يتلاءم فيه الهدف الثاني بشكلٍ أكبر مع العمل في إطار العرف وظروف الحياة السياسيّة. وتبلغ أهميّة هذا العامل درجتها القصوى على مستوى الهدف الثالث، حيث يُنظر إلى الإمام الحسين ـ بغضّ النظر عن معتقداته السياسيّة ـ بمثابة عنصر فاعل على الساحة السياسيّة. ومع هذا كلّه فلا يخلو الهدف الأوّل بدوره عن بعض الجوانب العمليّة؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان يمتلك باستمرار نتائج وأدواراً اجتماعيّة.
5ـ مواجهة حالة الانغلاق السياسي السائدة في عصر يزيد
الفرضيّة الأخرى التي يمكن طرحها في هذا المجال([38]) هي التي ترى بأنّ الهدف الأساسي للإمام الحسين يكمن في مواجهة حالة الانغلاق السياسي وانسداد الأفق في عهد يزيد. وبحسب هذا الرأي فإنّ الإمام الحسين كان يعلم بأنّه سيسقط شهيداً على يد يزيد، سواءٌ كان ذلك في المدينة أو في مكان آخر، غاية الأمر أنّه(عليه السلام) سعى إلى إحياء نهج المقاومة ضدّ يزيد في المجتمع، من خلال سحب مشهد شهادته إلى ساحة المجتمع.
وفي هذا الإطار يستطيع المؤيِّدون لهذا الرأي الاستناد إلى المصير الذي آلت إليه حكومة يزيد إثْرَ شهادة الإمام الحسين(عليه السلام). وقد تأثَّر هذا المصير بصورةٍ واضحة بتفاقم قدرة المجتمع على الثأر ومعاقبة المتسبِّبين في شهادته(عليه السلام).
وخلافاً لمعاوية الذي كان يمتاز بالتأنّي والبرمجة، واللجوء إلى الكرّ والفرّ، والتقدّم ببطء وهدوء، فإنّ يزيد كان يفتقد لحسّ الاطّلاع على الأوضاع، والمرونة في التخطيط. وما كان يتطلَّب من معاوية سنواتٍ طوالاً، مليئة بالمشقّة والصبر والتأنّي، كان يراه يزيد سائغاً في ليلة واحدة. وتتضافر عوامل مختلفة ـ من جملتها: الروحيّة المتعجرفة، وعدم امتلاك الفطنة اللازمة لمعرفة الظروف ـ لتشكِّل الأصل والسبب في النظرة الأحادية التي كانت عند يزيد.
وعلى أيّ حال، عند السعي نحو الحكم ـ مع أنّه هدف فوق الطاقة والاستعداد ـ، والخطأ في تقدير القدرات والإمكانيّات، فإنّ ذلك يمهّد الأرضيّة لحصول اختناق اجتماعيّ وسياسيّ. وقد حصل فعلاً هذا الاختناق في عهد يزيد، حيث دعا الجميع إلى مبايعته والتسليم له. وفي نفس الوقت الذي كان يتصرّف فيه علناً بشكلٍ مناف للدين والأوضاع السائدة في المجتمع كان يُحبّ أن يطلق عليه اسم (أمير المؤمنين).
كلّ هذه الأمور أدّت إلى رسوخ شكلٍ من أشكال السنن الخاطئة، وشيوعها في المجتمع. ومع أنّ العديد من التجارب المــُضنية قد حلّت بالمجتمع بعد وفاة الرسول|، إلاّ أنّ أحداً لم يكن يعتبر نفسه أميراً للمؤمنين مع احتسائه العلنيّ للخمر.
ووفقاً لهذا التحليل ينبغي النظر إلى مسألة إزالة حالة الاحتقان، وإظهار حالة العجز الواقعي التي يعاني منها حكم يزيد، بمثابة هدفٍ نهائيّ للإمام الحسين. وقد كان الإمام يسعى إلى فضح حكومة يزيد، التي تشكَّل بناؤها الداخلي على أساس الظلم؛ لينقلب بذلك تهوُّر هذه الحكومة وبالاً عليها. ونتيجةً لهذا الأمر فإنّ أيّاً من الحكومات التي جاءت بعد يزيد لم تستطع تحطيم الرقم القياسي الذي وصل إليه حكمُه، ولم يُرغَب في ذلك، مع أنّ العديد منها قد سلك سبيل الغيّ والضلال.
وتدلّ عبارة «على الإسلام السلام» على الهدف النهائيّ الذي كان يصبو إليه الإمام الحسين. وقد كان الإمام الحسين يخشى من استمرار السياسات المبتنية على الانغلاق، كما بذل قصارى جهده في سبيل كسر شوكة خطّ الانغلاق، والقضاء على قدراته. فرغم أنّ الخطوات التي قام بها الإمام الحسين لم تُؤمّن الإسلام تاريخيّاً من بروز أجواء الاختناق السياسيّ والاجتماعيّ، لكنْ من المتيقّن أنّها ضمنت محافظة الحكّام اللاحقين على درجة معيَّنة من الظاهر، واستجابتهم لمطالب الناس العامّة.
ومضافاً إلى ذلك، إذا كنّا لا نروم الخوض في تقييمات بعيدة المدى، وكتابة وصفة جاهزة للتاريخ، أو حتّى طرح آراء مغايرة لهذا النوع من الرؤى، ينبغي علينا أن نعدّ تفادي حصول الانهيار الاجتماعي كأحد الأهداف التي سعى إليها الإمام الحسين. وفي الواقع فإنّ الإمام(عليه السلام) تمكَّن بهذا العمل من إنقاذ مجتمعٍ كان يسير في اتّجاه الانهيار، وحدوث أزمات إقليميّة، وانفصال الفئات الاجتماعية عن بعضها البعض في نهاية المطاف. ويشهد التاريخ بأنّ الطالبين بثأر الإمام الحسين هم وحدهم الذين سحقوا يزيد وحكومته.
الإشكال المشهور على هذه النظريّة
تشير الأوضاع التي تبلورت من خلالها حادثة كربلاء، والمجتمع الذي نمت وبرزت فيه هذه الواقعة، إلى ظهور مجتمع منغلق، قد انحدر من الناحية السياسيّة إلى عصر الاختناق. ومع أنّ هذا الاختناق والانغلاق له سابقةٌ من نوعه، قبل إمساك يزيد بأزمّة الحكم، لكنّ حكومة يزيد هي الحكومة الوحيدة التي دفعت به إلى أعلى مستوياته، وأدّت إلى إصابة المجتمع بهزّات عنيفة، ومعاناته من الاحتقان السياسي، وذلك من خلال إلغاء الجوانب الظاهريّة التي كانت تتَّصف بها حكومة معاوية. وعليه مع إثمار هذه الحركة الاجتماعيّة والتحوّل السياسي فقد اتَّجهت حالة الاحتقان نحو الانخفاض إلى أن اضمحلّت.
في الحقيقة، وضمن نتيجة عامّة وكليّة، بإمكاننا دراسة الأوضاع المتقدِّمة على واقعة كربلاء، والمتأخِّرة عنها، في علاقتها مع حالة الانغلاق السياسيّ، وبيان أنّ التخفيض من مستوى الاحتقان يُعَدّ على الأقلّ من أهمّ الآثار التي نتجت عن هذه الحادثة.
لكنّ الكلام هنا في أنّه إلى أيِّ حدٍّ يُمكننا اعتبار النضال من أجل الوصول بهذه الوضعيّة إلى حالة الإثمار أحدَ الأهداف ـ أو هدفاً محوريّاً ـ لحادثة كربلاء؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ الخروج من حالة الاحتقان، وإيجاد انفراج فيها، هو ـ مبدئيّاً ـ من أهداف تلك الواقعة، بحيث كان يُسعى لتحقيقه بصورة واعية، أم لا؟
وجواباً عن ذلك ينبغي القول: إنّ دراسة الشواهد التاريخيّة تحكي عن عدم امتلاك أيّ دليل ـ أو أدلّة ـ على كون الخروج من حالة الانغلاق هدفاً للإمام(عليه السلام). وبالتالي يجب عدّ هذا الأثر المهمّ من جملة الآثار التي تحقَّقت ضمن تحقُّق أهداف الإمام الحسين الأخرى. وإلى جانب هذه الرؤية يمكننا فتح آفاق جديدة من البحث، نستطيع ـ إذا ما أخذناها بعين الاعتبار ـ أن نعدّ الخروج من حالة الانغلاق هدفاً منظوراً، وذلك على الرغم من عدم وجود شواهد خاصّة على هذا الأمر.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآفاق الجديدة من البحث تعتمد في داخلها على رؤية كلاميّة، مفادها أنّ الأئمّة؛ وبسبب امتلاكهم لعلم الغيب، ووقوفهم على الآثار التي تخلِّفها التحرّكات والمبادرات السياسية وغير السياسيّة الصادرة عنهم، فإنّهم يتَّخذون من هذه الآثار هدفاً وغاية، وهم يتصرَّفون بطريقة مدروسة بدقّة، وعن وعي بجميع الانعكاسات والآثار المحتملة، خلافاً لعامّة الناس، الذين تتميَّز طريقة عملهم بنحوٍ من الفوضى.
6ـ نظريّة الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة (نظريّة جديرةٌ بالبحث)
عند استعراضنا لهذه النظريّة سنسعى بشكلٍ أكبر إلى تحديد الإطار الخاصّ، الذي يعطي تفسيراً لمعنى نهضة الإمام وفقاً لهذه النظريّة، وسنغضّ الطرف عن الخوض في الجانب التاريخيّ المرتبط بتلك النهضة. وبطبيعة الحال لو تمّ التوافق على هذا الإطار فإنّ الجوانب التاريخيّة ـ التي مرّت معنا عند عرض النظريّات السابقة ـ ستحتلّ مكانها المناسب فيه، بحيث لن تفتقر بعد ذلك لأيّ توضيحٍ زائد.
وفي ما يلي سنتعرّض لبيان هذه النظريّة:
في بعض الأحيان تكون أهداف الأئمّة^ في مستويَيْن: ظاهر؛ ومستور. وقد تخفى علينا المستويات السفلى من هذه الأهداف، مع أنّها تترك تأثيرها على طريقة تفكيرنا أو منهجنا في الفهم أو أسلوب حياتنا الدينيّة. وبعبارة أفضل نقول: إنّه أحياناً قد نتنفّس في داخل أجواء ناتجة عن جهود الأئمّة ومساعيهم، مع أنّنا لا نملك أدنى اطّلاع على ماهيّة هذه الجهود وطبيعتها.
إنّ التعرُّف على هذا النوع من الأساليب، التي كان يتَّبعها الأئمّة في عملهم، لا يتسنّى لنا إلاّ من خلال القيام بعمليّة تشريح للفهم التاريخي، ودراسة التطوّرات التي عرفها الفكر التاريخي. فإذا لم تترافق نظرتنا إلى الماضي مع بعض الاستنباطات التأويليّة فمن المتيقَّن أنا سنسقط في انحرافات وأخطاء في الفهم.
وكمثال على ذلك: قد نواجه أحياناً بعض تصرّفات الأئمّة التي لا تنسجم من جهة مع علمهم بالغيب، ولا تتلاءم من جهة أخرى مع سيرة بقيّة الأئمّة. ففي مثل هذه الموارد علينا أن نربّي أنفسنا على القيام بدراساتٍ أعمق عند التعامل مع الواقع، وأن نسعى إلى الكشف عن العلاقة والتوازن الداخلي الحاصل بين النتائج طويلة الأمد والنتائج الآنية ـ أو الأهداف الظاهرة ـ المنبثقة عن المواقف التي كان يتخذها الأئمّة(عليهم السلام).
وإذا أمعنّا النظر في العبارات المستعملة في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) سنقف على حقيقة مفادها أنّ هدف الإمام يتألّف من مستويين: ظاهريّ ومكشوف؛ وباطني ومستور. فالمستوى الظاهري هو ذلك الأسلوب الذي تمّ طرحه على شكل سياسة إعلاميّة، وفي إطار السعي نحو هدفٍ مطلوب ومرغوب.
وكمثال على ذلك: يُمكننا اعتبار دعوة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى عزل يزيد، وإقامة نظامٍ عادل للحكم، بمثابة مستوى ظاهريّ لبعض المواقف، التي خُتمت في الأخير بعاشوراء.
وأحياناً قد يكون التاريخ وحده القادر على كشف النقاب عن تلك المستويات الباطنيّة. ولذلك فقد كشفت لنا عاشوراء في هذا العصر عن خصوصيّاتها.
ولتوضيح هذه النظريّة بشكل أكبر يجدر بنا الالتفات إلى مسألتين:
الأولى: بإمكاننا أن نعدّ نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» جسراً يربط بين نظريّة الأهداف المتوازية ـ للشهيد مطهّري ـ ونظريّة الأهداف المرحليّة ـ التي تبنّاها صالحي النجف آبادي وعدّة آخرون ـ. فعلى الرغم من أنّ هذه النظريّة تمتلك هويّة مستقلّة عن كلتا النظريّتين، غير أنّه يمكننا اعتبارها نقطة اشتراكٍ بينهما؛ وذلك بسبب قربها من بعض العناصر التي تؤلِّف النظريّتين.
فباعتقاد نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدّدة» وجودَ أهداف جليّة، وأخرى خفيّة، في صلب الواقعة تكون قد اقتربت من نظريّة الأهداف المتوازية لمطهّري، والتي تعتقد بتعدُّد الأهداف أيضاً. لكنْ، وخلافاً لنظريّة الأهداف المتوازية، لم يأتِ الحديث في هذه النظريّة عن أهداف صمدت حتّى النهاية في وجه التحوُّلات البديلة. فالإيمان بحدوث التغيير على مستوى الأهداف ـ وخصوصاً في المراحل الأخيرة لحادثة كربلاء، وبالأخصّ بعد مواجهة الحُرّ ـ يفضي إلى حصول تقارب أكثر بين نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» وفكرة «الأهداف ذات المراحل المختلفة».
ومع هذا، وخلافاً لنظريّة صالحي النجف آبادي، فقد تمّ التأكيد هنا على أنّ الاعتقاد بالأهداف المتوازية هو شكلٌ من أشكال التنوّع في الأهداف.
الثانية: تركِّز نظريّة «الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة» على التعامل مع الأهداف بشكلٍ عملي. وتوضيحاً لهذا الأمر ينبغي لنا أن نقول بأنّ من الممكن اعتبار أسلوبين: التفصيل العملي بين الأهداف؛ والتعامل العملي مع الأهداف.
ومرادنا من الأسلوب الأوّل هو أن نعيِّن لكلّ هدف مجالاً وإطاراً خاصّاً، كان الإمام الحسين(عليه السلام) يأمل من خلاله في الوصول إلى الآثار والنتائج المرجوّة.
ومقصودنا من الأسلوب الثاني هو أن نصوِّر تلك الأهداف بحيث تكون في خدمة بعضها البعض، ويكمّل بعضُها البعض الآخر. ووفقاً لهذا الرأي يُنظر إلى كلّ هدف يحوز على أهمّيةٍ أقلّ بين الأهداف كممهِّد أو مساعد على تحقُّق الهدف الأعلى أو الهدف الأساسي.
وفي هذا الصدد نستطيع أن نُخفّض مسألة استجابة الإمام الحسين لدعوة الكوفيّين من مستوى الأهداف الواقعيّة إلى مستوى الأهداف الاستراتيجيّة أو الخطط التنفيذيّة. وبالتالي لو كان الحسين(عليه السلام) يملك أمامه استراتيجيّة أو خطّة تنفيذيّة أخرى؛ من أجل بلوغ أهدافه، لاستعان بها. وبعبارة أخرى: تُعتبر مسألة الاستجابة للكوفيّين مجرَّد شكلٍ من أشكال الاستفادة من الظروف الاجتماعيّة؛ في سبيل تهيئة الأرضيّة المناسبة للوصول إلى الأهداف المهمّة والرئيسيّة، ولا تحظى بأهمّية ذاتيّة في وقوع حادثة كربلاء.
وهكذا فإنّ كلّ هدفٍ من الأهداف لا يُلغي الشواهد التي تسعى للعثور على أهدافٍ أخرى في قلب الحادثة، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنّ كلّ هدفٍ يحمل على عاتقه جزءاً من مسؤوليّة تمهيد الأرضيّة لتحقيق أهداف أعظم وأهمّ.
وأمّا مطهّري فلم يتحدَّث حول هذا الموضوع، وبالتالي ينبغي علينا أن نرى أيّ واحدٍ من الأسلوبين يُمكننا حمل كلامه عليه، وهو ما يتطلَّب دراسةً أعمق.
انتهى
*الشيخ أحمد مبلغي
-------------------
([32]) علي پناه اشتهاردي، هفت ساله چرا صدا در آورد؟ (لماذا استصرخت السنوات السبع؟): 193 ـ 194.
([33]) الشهيد مطهّري، مجموعة الآثار 17: 671 ـ 703.
([34]) المصدر السابق 17: 146 ـ 152.
([35]) المصدر نفسه.
([36]) المصدر نفسه.
([37]) المصدر السابق 17: 141 ـ 146.
([38]) لم أرَ حتّى الآن أنّ أحداً قد تعرَّض لطرح هذه الفرضيّة. وما يوجد في هذا المجال هو مجرَّد تعليقات أوردها أحد العلماء في المقدِّمة التي كتبها على كتاب (بررسي تاريخ عاشورا)، من تأليف الدكتور آيتي، حيث من الممكن أن نعدّ بعضاً من هذه التعليقات قريبةً من تلك الفرضيّة.