عَنْ حِذْيَمِ بْنِ شَرِيكٍ الْأَسَدِيِ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ بِالنِّسْوَةِ مِنْ كَرْبَلَاءَ، وَكَانَ مَرِيضاً وَإِذَا نِسَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَنْتَدِبْنَ مُشَقَّقَاتِ الْجُيُوبِ وَالرِّجَالُ مَعَهُنَّ يَبْكُونَ، فَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (ع) بِصَوْتٍ ضَئِيلٍ، وَقَدْ نَهَكَتْهُ الْعِلَّةُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ عَلَيْنَا فَمَنْ قَتَلَنَا غَيْرَهُمْ؟ فَأَوْمَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) إِلَى النَّاسِ بِالسُّكُوتِ.
قَالَ حِذْيَمٌ الْأَسَدِيُّ: لَمْ أَرَ وَاللَّهِ خَفِرَةً قَطُّ أَنْطَقَ مِنْهَا كَأَنَّهَا تَنْطِقُ، وَتُفْرِغُ عَلَى لِسَانِ عَلِيٍّ (ع)، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى النَّاسِ بِأَنْ أَنْصِتُوا، فَارْتَدَّتِ الْأَنْفَاسُ، وَسَكَنَتِ الْأَجْرَاسُ، ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ (ص):
أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ وَالْغَدْرِ وَالْخَذْلِ أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. هَلْ فِيكُمْ إِلَّا الصَّلَفُ وَالْعُجْبُ وَالشَّنَفُ.
وَالْكَذِبُ، وَمَلَقُ الْإِمَاءِ، وَغَمْزُ الْأَعْدَاءِأَوْ كَمَرْعًى عَلَى دِمْنَةٍ أَوْ كَفِضَّةٍ عَلَى مَلْحُودَةٍ.الَا بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِي الْعَذَابِ أَنْتُمْ خَالِدُونَ أَتَبْكُونَ أَخِي أَجَلْ وَاللَّهِ فَابْكُوا فَإِنَّكُمْ أَحْرَى بِالْبُكَاءِ فَابْكُوا كَثِيراً وَاضْحَكُوا قَلِيلًا فَقَدْ أَبْلَيْتُمْ بِعَارِهَا، وَمَنَيْتُمْ بِشَنَارِهَا.
وَلَنْ تَرْحَضُوهَا أَبَداً وَأَنَّى تَرْحَضُونَ قُتِلَ سَلِيلُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ، وَسَيِّدُ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَلَاذُ حَرْبِكُمْ وَمَعَاذُ حِزْبِكُمْ وَمَقَرُّ سِلْمِكُمْ وَآسِي كَلْمِكُمْ وَمَفْزَعُ نَازِلَتِكُمْ وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ مُقَاتَلَتِكُمْ وَمَدَرَةُ حُجَجِكُمْ.
وَمَنَارُ مَحَجَّتِكُمْ أَلَا سَاءَ مَا قَدَّمَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ وَسَاءَ مَا تَزِرُونَ لِيَوْمِ بَعْثِكُمُ فَتَعْساً تَعْساً وَنَكْساً نَكْساً لَقَدْ خَابَ السَّعْيُ وَتَبَّتِ الْأَيْدِي وَخَسِرَتِ الصَّفْقَةُ وَبُؤْتُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْكُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أَتَدْرُونَ وَيْلَكُمْ أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (ص) فَرَثْتُمْ وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ.
وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا شَوْهَاءَ صَلْعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقْمَاءَ خَرْقَاءَ كَطِلَاعِ الْأَرْضِ أَوْ مِلْءِ السَّمَاءِ.
أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ دَماً وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ، فَلَا يَسْتَخِفَّنَّكُمُ الْمَهَلُ فَإِنَّهُ لَا يَحْفِزُهُ الْبِدَارُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ فَوْتُ النَّارِ كَلَّا إِنَّ رَبَّكَ لَنَا وَلَهُمْ لَبِالْمِرْصادِ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ (ع):
مَا ذَا تَقُولـونَ إِذْ قَــالَ النَّبِيُّ لَكُــمْ مَاذَا صَـــنَعْتُمْ وَأَنْتُمْ آخِــرُ الْأُمَمِ
بِأَهْلِ بَيْتِــي وَأَوْلَادِي وتكْرِمَتِـــي مِنْهُمْ أُسَارَى وَمِنْهُمْ ضُــرِّجُوا بِدَمٍ
مَا كَانَ ذَاكَ جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُ مْأَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي ذَوِي رَحِمِي
إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ يَحُــــــلَّ بِكُمْ مِثْلُ الْعَذَابِ الَّــــذِي أَوْدَى عَلَى إِرَمٍ
ثُمَّ وَلَّتْ عَنْهُمْ. قَالَ حِذْيَمٌ: فَرَأَيْتُ النَّاسَ حَيَارَى قَدْ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ شَيْخٌ فِي جَانِبِي يَبْكِي، وَقَدِ اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِالْبُكَاءِ، وَيَدُهُ مَرْفُوعَةٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمِّي كُهُولُهُمْ خَيْرُ كُهُولٍ، وَنِسَاؤُهُمْ خَيْرُ نِسَاءٍ، وَشَبَابُهُمْ خَيْرُ شَبَابٍ، وَنَسْلُهُمْ نَسْلٌ كَرِيمٌ وَفَضْلُهُمْ فَضْلٌ عَظِيمٌ ثُمَّ أَنْشَدَ:
كُهُولُكُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ وَنَسْلُكُمْإِذَا عُدَّ نَسْلٌ لَا يَبُورُ وَلَا يَخْزَى
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: يَا عَمَّةِ اسْكُتِي فَفِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاضِي اعْتِبَارٌ وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٍ إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْحَنِينَ لَا يَرُدَّانِ مَنْ قَدْ أَبَادَهُ الدَّهْرُ فَسَكَتَتْ، ثُمَّ نَزَلَ (ع) وَضَرَبَ فُسْطَاطَهُ وَأَنْزَلَ نِسَاءَهُ وَدَخَلَ الْفُسْطَاطَ.