ثانياً: الإشكالات المشهورة الواردة على اعتبار الحكم هدفاً من نهضة الإمام(عليه السلام)
رغم وجود شواهد تساعدنا في إثبات أنّ إقامة الحكومة هي الهدف فإنّ هذه النظريّة تُواجه عدّة إشكالات جادّة، تتطلّب منّا تقديم حلولٍ علميّة؛ من أجل الحكم بقطعيّة النظريّة وتماميّتها.
الإشكال الأوّل: في ردّهم لنظريّة «نزوع الإمام الحسين نحو الحكم» يُشير مؤيّدو نظريّة «كون الشهادة هي الهدف» إلى كلام الإمام الحسين(عليه السلام) في اليوم السابع أو الثامن من ذي الحِجّة، حيث يُبرز(عليه السلام)، ضمن خطبة ألقاها في ذلك اليوم، استعدادَه الكامل للشهادة. والشيء الذي يُؤدّي بنا إلى ترجيح هذا الشاهد التاريخي في مقابل بقيّة كلمات الإمام الحسين، الدالّة على رغبته في الشهادة، هو زمان وقوعه. فالإمام الحسين نطق بهذا الكلام حين وصلت دعوة الكوفيّين إلى أوجها، ولم تكن قد وصلته بعدُ رسالة مسلم المفصحة عن تخاذل الكوفيّين، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل([14]).
ويقول الدكتور آيتي، وهو أحد المؤمنين بفكرة «كون الشهادة هي الهدف»: نحن نعلم بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ألقى هذه الخطبة قبل اليوم الثامن من ذي الحِجّة، وربما في اليوم السابع من ذلك الشهر، وذلك في المسجد الحرام، وسط حشد من الحجّاج وزوّار بيت الله.
وقد كانت الأوضاع السياسيّة التي يعيشها الإمام الحسين في ذلك اليوم مناسِبةً بحسب الظاهر، وكان أغلب الناس يعتقدون بتنحّي يزيد وسقوط خلافته في القريب العاجل، ليتربّع بذلك الإمامُ على كرسيّ الخلافة، التي هي حقّه([15]).
ويقول الدكتور شريعتي ـ وهو من المعتقدين كذلك بفكرة «كون الشهادة هي الهدف»: وأمام كلّ ذلك الجمع الغفير من الحجّاج الذي أتَوْا من سائر الأقاليم الإسلاميّة يُعلن بأنّه متَّجهٌ نحو الموت: خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة. إنّ مَنْ يريد أن يقوم بنهضة سياسيّة لا يتحدّث بهذا النحو، بل يقول: سنضرب، سنقتل، سننتصر، سنقضي على العدوّ؛ وأمّا الحسين…([16]).
الإشكال الثاني: الإشكال الآخر الذي يُمكننا إضافته إلى قائمة دعاوى القائلين بنظريّة الشهادة ـ في مقابل المعتقدين بنظريّة الحكومة ـ هو ما يرتبط بالوضعيّة السياسيّة السائدة في عصر الإمام الحسين؛ حيث يحكي لنا التاريخ بشكلٍ واضح عن أنّ الجميع ـ ومنهم العديد من أصحاب الإمام الحسين ومحبّيه ـ كان يرى بأنّ الظرف ليس مناسباً للاستجابة لدعوة الكوفيّين. وعليه يبدو أنّ تقييم نخب المجتمع للظروف الزمنيّة كان مبنيّاً على أنّ الظروف الموجودة لا تُساعد على إقامة الحكومة. وبناءً على هذا التحليل يدلّ العقل الجمعيّ للنخبة، والتقييم الذي قدّمه عامّة الخبراء السياسيّين، على عدم توفّر الظروف المناسبة لتأسيس الحكومة.
ويدور الحديث هنا حول السبب في جعل الإمام الحسين مسألة إقامة الحكومة في ضمن برنامج أعماله، خصوصاً مع ملاحظة الظروف الآنفة.
ويُمكننا أن نحمل هذا الدليل على محمل الجدّ بشكلٍ أكبر، وخاصّةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّه متى ما تمّ الحديث عن اتّخاذ قرارات سياسيّة فإنّ الرسل والأئمّة كانوا عادةً ما يتمسَّكون بالشورى، واتّخاذ قرارات جماعية. ومع كلّ هذا نرى بأنّ الإمام قد عمل في هذا المورد بخلاف نصيحة الجميع ومشورتهم، ومنهم أقرب محبّيه، نظير: ابن عبّاس. ففي هذه الحالة يكون تغاضي الإمام عن العمل بما كان يُصرّ عليه الجميع علامةً وشاهداً على نزوعه نحو الشهادة، لا على رغبته في الحكم.
وفي الجواب عن هذا الإشكال يقول الشيخ الطوسي ـ الذي يُعدّ من أوائل المدافعين عن فكرة سعي الإمام نحو الحكم ـ بأنّه من المحتمل أن يكون أشخاصٌ من قبيل: ابن عبّاس وغيره من الناصحين غيرَ مطّلعين على الرسائل التي كتبها الكوفيّون للإمام، وأنّ تقييم الإمام المختلف للظروف يعتمد في الواقع على توفّره على معلومات أكثر.
وعلى هذا فإنّ الإمام قد عمل في الحقيقة وِفْق ظنّه، وقام برسم سياسته الخاصّة بحسب ما أملاه عليه تصوُّره، القاضي بإمكانيّة تأسيس الحكومة. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الطوسي: فأمّا مخالفة ظنّه لظنّ جميع مَنْ أشار عليه من النصحاء، كابن عباس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحد وتضعف عند آخر. ولعلّ ابن عبّاس لم يقِفْ على ما كوتب به(عليه السلام) من الكوفة، وما تردَّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق([17]).
الإشكال الثالث: بعد أن عَلِم في منتصف الطريق بمصير مسلم لم يمتنع الإمام عن إكمال الرحلة، واستمرّ في سفره. فلو كان(عليه السلام) يقصد واقعاً من سفره إقامة الحكومة لكان ينبغي عليه العدول عنه بمجرّد الاطّلاع على الحالة التي آل إليها مسلم، وانتفاء الأرضيّة المساعِدة على تأسيس الحكومة، لا أن يستمرّ فيه.
وقد أجاب الشيخ الطوسي عن هذا الإشكال، حيث يُستفاد من كلامه([18]) أنّ الإمام الحسين اختار العودة في هذه المرحلة، بعد علمه بخبر مسلم، ويأسه من الكوفيّين. لكنْ في نفس هذه الأثناء تبلورت حالة روحيّة جديدة، لعبت دوراً مهمّاً ـ على الرغم من جزئيتها ـ في صنع الأحداث التالية. وقد نتجت هذه الحالة عمّا حصل لأسرة مسلم، الذين تأثَّروا بشدّة عند سماعهم خبر شهادته المؤلم، حيث أقسموا على الأخذ بثأره، فما كان من الإمام الحسين بعد تبلور هذه الوضعيّة الجديدة، والأجواء المنبثقة عنها، إلاّ أن قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء.
وتحليلاً لهذا الجواب نقول: إنّ التوجّه الخاصّ الذي تمّ تبنّيه في هذه المرحلة ناتجٌ عن حالات روحيّة وعاطفيّة معيَّنة، أكثر من أن يكون حصيلةً لاستراتيجيّة محدَّدة. وفي نفس الوقت، ومع أنّ القافلة لم تختَرْ سبيل العودة، غير أنّها كانت تأمل من خلال إيكال الأمور إلى المستقبل في أن تُفتح أمامها خياراتٌ أفضل.
علاوةً على ذلك من الممكن تقديم جواب آخر، مفاده أنّ الإمام الحسين لو قَفِل راجعاً من سفره بعد خبر شهادة مسلم لأدّى ذلك إلى إبطال جميع الجهود التي بذلها سابقاً، وحُكم عمليّاً على العديد من التمهيدات الأوليّة التي قام بها بالفشل، إنْ لم نقُلْ بانتهائها في الأخير إلى بروز ردود أفعال معاكسة.
وبالتالي كان ينبغي عليه الامتناع عن القيام بالعديد من الخطوات السياسيّة التمهيديّة ـ من قبيل: مسألة عدم إكمال مراسم الحجّ، والعديد من الخطب المناهضة للظلم، التي أُلقيت ضدّ حكومة يزيد ـ، والمحافظة عليها، ومتابعتها، بانتظار حلول اللحظة التاريخيّة لكي تثمر وتؤثِّر. وبعبارة أخرى: لو كان الإمام في هذه المرحلة آيساً من إقامة الحكومة لكان ينبغي عليه ـ بحسب المنطق ـ أن لا يعمد إلى تخريب أُسُسها في الحدّ الأدنى؛ لأنّ هذا العمل قد يُفضي إلى تقوية حكومة يزيد اللاشرعية والمزاجيّة.
وإذا أضفَيْنا على المطالب السابقة مسحةً من القرائن التاريخيّة فستتشكّل لدينا صورة مشوَّهة عن تراجع الإمام الحسين من بين حجّاج المدينة، وخصوصاً إذا كان تراجعاً عن مراسم الحجّ. فقد خطا الإمام الحسين في هذا الطريق بإصرار، وخلافاً لمشورة عامّة النخبة والعديد من محبِّيه، كما أبدى ثباتاً في عزمه على المواصلة، إلى درجة أنّه امتنع حتّى عن الاستمرار في مراسم الحجّ بصورتها المعهودة.
ففي مثل هذه الظروف لا يبدو أنّ أهالي مكّة كانوا مطَّلعين على الأوضاع، أو أنّهم التقَوْا بقافلة الإمام الحسين؛ لكي يعلموا بأنّه اختار سبيل العودة، وتراجع عن مسيره، مع أنّه لا يزال يحمل على عاتقه رُزمة من الادّعاءات الكبيرة. وبناءً عليه، وبالإضافة إلى الجوانب النفسيّة للقضيّة ـ وهي على درجة من الأهميّة، وتشكّل روح جواب الشيخ الطوسي ـ، يُعدّ تبلور هذه الوضعيّة علامةً من الناحية الثقافيّة على ضعف الإدارة والتردُّد في اتّخاذ القرار.
الإشكال الرابع: لقد أظهر الإمام الحسين مخالفته للحكم السائد في ذلك العصر قبل شهور من تحرُّكه. ولم تقتصر هذه المخالفات على إبداء السخط وعدم الرضا، بل ترافق ذلك مع بروز مجموعة من المؤشِّرات على وجود تحرُّك سياسي ضدّ حكومة يزيد. ولو كان الإمام الحسين يسعى واقعاً نحو إقامة الحكومة لكان من اللازم عليه التكتُّم على نيّته إلى أن تتوفَّر لديه المؤهِّلات اللازمة للسلطة.
فمن الواضح تماماً أنّ الإمام الحسين، ومن خلال إبرازه العمليّ لتذمّره من حكومة يزيد، وإفصاحه عن أوضاع ثورته ـ سواءٌ في المدينة أو في مكّة ـ، قد هيّأ ليزيد الأرضيّة المناسبة لتوفير الإمكانيّات اللازمة وتجهيز القوّات. ونحن نعلم بأنّ القيام بخطّة انقلابيّة ضدّ الحكومة مسألة تحتاج إلى التكتُّم، ولو في مراحلها الأولى كحدٍّ أدنى. وبدلاً من إلقاء تلك الخطب الساخنة والحماسيّة في مكّة كان بإمكان الإمام الحسين أن يتوجَّه نحو الكوفة بطريقة سرّية، ولا يطرح فكره السياسي على الملأ إلاّ بعد التعبئة العمليّة لقوّاته، والتوفُّر على مستوى معقول من القدرة العسكريّة.
وهو نفس ما قام به الرسول بالضبط في أوائل البعثة؛ إذ لو تحدَّث الرسول عن مسألة إقامة الحكومة قبل الهجرة إلى يثرب، وسلك طريق المدينة برفقة أهله وأصحابه ومحبّيه، لكان من المحتمل جدّاً أن يسقط شهيداً على يد أعدائه قبل الوصول إلى هناك، لكنَّه توجَّه نحو المدينة في الليل سرّاً، ومع مراعاة المسائل الأمنيّة، من قبيل: اختياره لأشقّ طريقٍ ممكن.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور شريعتي: لو أنّ الناس استيقظوا صباحاً ففوجئوا بعدم تواجد الحسين بينهم، ولو أنّ الحسين خرج من المدينة وحده متستِّراً ليلتحق ببعض القبائل، ولو أنّه هاجر من المدينة إلى الكوفة خُفيةً مثلما فعل النبيُّ عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، وبعد مدّة وجيزة يُفاجئ الحكم المركزي بوجوده في الكوفة، فحينئذ سيعلم المعارضون والمتمرِّدون بأنّ الحسين ما تحرّك إلاّ بعنوان النهضة ضدّ النظام الحاكم.
غير أنّ هيئة القافلة التي خرج بها الإمام الحسين، وشكل الحركة التي اتّخذها، تدلّ على أنّه تحرَّك وهدفُه القيام بعمل آخر. ولم يكن ذلك العمل فراراً ولا انزواءً، ولا خضوعاً ولا استسلاماً، ولا اعتزالاً للكفاح السياسي بُغيةَ الخوض في النضال الفكري والعلميّ والفقهيّ والأخلاقيّ والقيام بالأعمال الخيريّة، ولم يكن كذلك عملاً عسكريّاً([19]).
على الرغم من أنّ الإشكال المذكور مثيرٌ للتأمّل، ويحتاج إلى دراسة أعمق، لكنْ بإمكاننا القول بأنّ الدعوى لا ترتبط بمسألة أنّ الإمام الحسين كان قاصداً منذ البداية ـ أي من حين خروجه من المدينة متوجّهاً إلى الكوفة ـ تأسيس نظام للحكم؛ لكي يرد عليها ذلك الإشكال ـ الذي مفاده أنّه في هذه الحالة لماذا لم يلجأ(عليه السلام) إلى التكتُّم على جهوده ومساعيه؛ من أجل تحقيق هدف من هذا النوع ـ؛ إذ إنّ دعوى قيام الإمام ببعض الإجراءات في سبيل إقامة الحكومة ترتبط بالمرحلة التي تلقّى فيها رسائل من الكوفيّين. وبما أنّه في هذه المرحلة لم يبقَ أيُّ مجال لإخفاء العمل، حيث كان الإمام قد طوى في الواقع قسماً من الطريق بصورة علنيّة، فلن يتمكَّن(عليه السلام) ابتداءً من هذه المرحلة فما بعدها أن لا يبقي على علنيّة حركته.
وبعبارة أخرى: يكفي أن نتصوّر الوضعيّة التي كان عليها الإمام الحسين في مكّة لكي نُذعن بعدم تهيّؤ الظروف له(عليه السلام) من أجل العمل السرّي والتحرُّك السياسي الخفيّ. ومن جملة هذه الظروف مرافقة الأهل والأولاد للقافلة، واطّلاع عامّة الناس ـ ومنهم الموالون لحكومة يزيد ـ على خروجه(عليه السلام). ويبدو أنّ الظروف في هذه المرحلة لم تكن تستدعي من الإمام الحسين(عليه السلام) التخطيط للعمل السياسيّ السرّي والخفيّ.
2ـ نظريّة النزوع نحو الشهادة
تبنَّت العديد من الشخصيّات نظريّة النزوع نحو الشهادة، مع فارقٍ، وهو أنّ كلّ واحد من هذه الشخصيّات نظر إليها من منظار خاصّ. نعم، توجد نقطة مشتركة بين هذه الآراء، وتكمن في ادّعائها جميعاً بأنّ هدف الإمام كان الشهادة.
وسنسعى من جهتنا لاستعراض هذه النظريّات في ما يلي:
أـ نظريّة اللهوف
يعتقد ابن طاووس بأنّ الإمام الحسين كان على علم بعاقبة أمره، وإنّما كان يتعبّد بهذا الموضوع؛ أيّ إنّه كان يرى نفسه مكلَّفاً بما قام به([20]).
ب ـ نظريّة فداء النفس، في سبيل العفو عن ذنوب الشيعة
تعتبر هذه النظريّة بأنّ شهادة الإمام الحسين هي علامة على تضحيته بنفسه في سبيل العفو عن ذنوب الشيعة، وبأنّها تُشكِّل فديةً عن الخطايا التي سيرتكبها أتباعه في المستقبل. وتعتمد هذه النظريّة على نوعٍ من الفهم نعثر على نظيرٍ له في الفكر المسيحي، حيث يُقدّم العديد من المسيحيّين تفسيراً لمسألة صلب عيسى(عليه السلام)، يُشبه إلى حدٍّ بعيد التفسير الذي قدَّمته هذه النظريّة.
ج ـ نظريّة طلب الشهادة، في إطار حركة وأهداف تاريخيّة
ويعدّ شريعتي هو مَنْ طرح هذه النظرية، حيث سعى من منظار علم الاجتماع التاريخي، ومن خلال تقديم مخطَّط عن الأوضاع الاجتماعيّة الحاكمة على ذلك العصر، إلى حصر هدف الإمام الحسين من الشهادة في التنديد بالظلم([21])، وفضح ممارسات يزيد، وضخّ دم جديد من الحياة والجهاد في عروق الجيل الثاني من الثورة النبويّة([22]).
وتوضيحاً لرأيه يُحاول الدكتور شريعتي تقديم مخطَّطٍ عن الأوضاع الاجتماعيّة السائدة في عصر الإمام الحسين، من خلال إلقاء نظرة على المسيرة التاريخيّة للمواجهة بين الحقّ والباطل.
ولإثبات مدّعاه، القاضي بأنّ الإمام الحسين كان يهدف من انتخابه لطريق الشهادة إلى فضح يزيد، يُشير إلى أنّه حتّى لو فرضنا بأنّه(عليه السلام) لا يمتلك علم الغيب، ولم يكن مطَّلعاً على خيانة الكوفيّين في طريق المواجهة، فإنّ القرائن والشواهد المتوفّرة في ذلك الوقت، علاوةً على النظام السلطوي لإمبراطورية بني أميّة، الذي كان متماسكاً إلى درجةٍ كبيرة، كلّ ذلك كان سيدفعه من وجهة نظر سياسيّة ـ وبغضّ النظر عن علم الغيب ـ إلى التسليم بعدم وجود أيّ فرصة للظفر على الأمويّين بهذه العُدّة القليلة وهذا الجيش المعدود. وبالتالي فإنّه كان يعدّ الشهادة مبدأً أساسيّاً وهدفاً نهائياً([23])، وليس كهدفٍ مال إليه في منتصف الطريق.
إنّ الرؤية التي قدَّمها شريعتي عن نهضة الإمام الحسين تُشكِّل قسماً من مشروعه الكبير حول تاريخ التشيُّع وفلسفته. فشريعتي هو من المعتقدين بأنّ التشيّع ـ على خلاف المذاهب الأخرى ـ يعتمد على فلسفة التاريخ([24])، التي تتبلور وتصل إلى مرحلة الفعليّة إثر التحوُّلات المتعاقبة والمتسلسلة التي تحدث بمرور الأيّام. وقد قام باستعراض حادثة كربلاء في إطار فلسفة تاريخ التشيّع. وعليه، ومن جهة دائرة المخاطَبين، فإنّه لا يقتصر على ربط الآثار والأصداء التي خلّفتها حادثة كربلاء بنطاق عصرها، بل يُعدّي ذلك ليشمل نطاقاً أوسع من تاريخ التشيّع والتحوّلات الطارئة عليه.
ومن جهة أخرى فإنّه يُعطي للإمام الحسين دوراً واعياً ومنسجماً مع النتائج المتوقّعة على ضوء هذه الفلسفة. ومن هنا فإنّ الإمام الحسين، وبالنظر إلى الدور الذي أُنيط به عبر التاريخ، أقدم على العمل بمضمون الرسالة التي تحدَّثت عن عاقبة أمره. وفي الواقع فقد كان يسير في طريق واضح المعالم، نحو هدفٍ معلوم، وبنتائج محدَّدة.
فمن وجهة نظر شريعتي تؤسّس العلاقة الجدليّة القائمة بين هذين الأمرين للتحوّلات الطارئة على المجتمع، وتنفخ فيها الروح، وتمدّها بالدافع، وتجعلها في الأخير قابلةً للتقييم. وعليه لا يكون الفعل صحيحاً إلاّ إذا كان موافقاً لمنهج التوحيد. وفي نفس الوقت يُشير شريعتي إلى صعوبة هذه المسألة وتعقيدها، ولا يعدّها بسيطة، ولا سطحيّة. وفي اعتقاده أنّ الشرك يتلبّس بلباس التوحيد في العديد من المواقع، فيصعب علينا بذلك اكتشافه، والتعرّف عليه.
ويرى بأنّ التوحيد يُشكّل روح التحوّلات الاجتماعيّة الإيجابيّة والتقدّمية، وينزعج كثيراً من الظاهريّين، الذين صيغ وجودهم في جوهره على أساس الشرك. وتمثِّل حادثّة كربلاء من منظار شريعتي مظهراً خالصاً، بدون رتوش، وبعيداً كلّ البعد عن أيّ شائبة من التظاهر، للحرب القائمة بين الشرك والتوحيد. وكربلاء ـ بحسبه ـ هي رواية صادقة وخالصة، تحكي عن الصراع الدائر بين التوحيد والشرك.
فما عرفته كربلاء من اصطفاف حقيقي، وبُعْد عن المظاهر الخدّاعة بجميع أنواعها، كان سبباً في ارتفاع معيار الإخلاص التوحيدي في هذه الحادثة إلى درجةٍ صارت معها وإلى الأبد محكّاً لتمييز الحقّ من الباطل. وتزداد الأهمّية التي تحظى بها كربلاء من ناحية أنّها في عين حصولها على رقم قياسي يأبى التكرار في الصفاء والإخلاص فإنّها تحتشد في مقابل الشرك، الذي يرى نفسه خليفة الله، ومظهراً للتوحيد.
فأخذ هذين القطبين الأساسيّين للتوحيد والشرك ـ أي الشرك ذو المظهر الخدّاع والتوحيد الخالص ـ بعين الاعتبار هو الدليل الذي جاء به شريعتي لاعتبار كربلاء تُمثّل قمّة المواجهة بين الشرك والباطل، وذروتها.
وما يلفت نظرنا حول شريعتي هو مستوى تحليله للأمور. وخلافاً للعديد من المنظِّرين الذين خاضوا في البحث حول حادثة كربلاء من الداخل، ومن خلال مجرى التحوّلات الطارئة عليها، فقد كان ينظر إلى كربلاء من خلال موقعها في وسط التاريخ، وكفرع من فروع فلسفة تاريخ الشيعة. وقد منحه هذا المستوى من التحليل قدرةً جنَّبته الالتهاء بجزئيّات الواقعة، ومكَّنته من عرض رؤيته الخاصّة لكربلاء، في مقابل الدور الذي لعبته الجزئيّات، والتي مثّلت أحياناً الهمّ الأساسي للنظريّات الأخرى.
كما أنّ هذه النظرة المتعالية والواسعة قد وهبته القابليّة للبحث حول ماهيّة الحوادث في ضمن الهدف النهائي للتاريخ. ونظراً لأنّ طبيعة وماهيّة كلّ حادثة جزئيّة من هذه النهضة لا تجد معناها إلاّ في إطار هدف نهائي فإنّه يلجأ وبكلّ بساطة إلى تفسيرها من خلال رؤيته التاريخيّة الخاصّة. وبناءً عليه فإنّه يعدّ مغادرة مكّة في أثناء مراسم الحجّ واقعةً يعلن الإمام من خلالها بأنّ الهدف والغاية قد تبدَّلا بتبدُّل النظام، ليُعاض عن ذلك ـ مع فقدان القيادة ـ بجسدٍ فاقد للروح([25]).
د ـ نظريّة الشهرستاني
ومفادها أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان يعلم بأنّه سيُقتل، سواءٌ بايع أم لم يُبايع، مع فارقٍ، وهو أنّه إذا بايع فإنّه سيقتل بالإضافة إلى اندثار مجده وآثار جدّه، بينما إذا لم يُبايع فسيقتل فقط، لكنْ مع تحقُّق آماله، وحفاظه على الشعائر الدينيّة، وحصوله على الشرف الأبدي([26]).
هـ ـ نظريّة الدكتور آيتي
سنسعى إلى توضيح نظريّة آيتي من خلال استعراض بعض كلماته، حيث يقول في موضع من كتابه: يريد أن يقول: إنّ تقييمي للمسألة ـ بصفتي أنا الحسين بن عليّ ـ هو أنّه بدون شهادتي أنا وأصحابي لا يُمكن الوصول إلى أيّ نتيجة، ولا القيام بأيّ عمل مفيد ونافع وإيجابي([27]).
ويقول أيضاً: إنّ هذا الانحراف الشديد الذي تعرَّض له نظام الخلافة الإسلاميّة في المرحلة الأولى، ثمّ تغلغل بعد ذلك في جميع الشؤون والنواحي الاجتماعية للمسلمين، لا علاج له إلاّ بالشهادة والفداء والثورة العارمة والجادّة([28]).
ويقول كذلك في موضع آخر: لم يُغادر الإمامُ مكّة فراراً من القتل، بل غادرها لكي يستفيد الإسلام إلى الأبد من شهادته إذا ما قُتل([29]).
ويقول آيتي أيضاً: فمن خلال عبارة: «خُطَّ الموتُ على وُلد آدم» يُشير الإمام إلى أنّ إصلاح الفساد الاجتماعي والديني ـ ولو كان على يد شخصٍ مثل ابن بنت رسول الله ـ لا يتيسّر إلاّ عن طريق الموت والشهادة. وقد كان كلّ حديثه في هذه الخطبة التي ألقاها قبل مغادرة مكّة يدور حول الشهادة والموت، والوقوع فريسةً لذئاب كربلاء الجائعة([30]).
مقارنة عامّة بين مختلف الآراء المطروحة حول نظريّة النزوع نحو الشهادة
بحسب تقسيمٍ عامّ وكلّي يُمكننا أن نصنِّف الآراء المنطوية تحت لواء هذه النظريّة إلى مجموعتين:
الأولى: وهي المجموعة التي تعدّ الشهادة بمثابة الهدف من النهضة، بالنحو الذي يكون فيه قتلُه× بحسبها أمراً قطعيّاً وحتميّاً؛ ومثال ذلك ما تمّ طرحه في نظريّتَيْ ابن طاووس والشهرستاني.
الثانية: وهي المجموعة التي ارتأت وجود خيارات أخرى أمام الإمام، مع اعتقادها بأنّه× قد مال إلى الشهادة من بين جميع هذه الخيارات. ومثالها يتجلّى في نظريّة كلٍّ من: شريعتي؛ وآيتي.
وأمّا النقطة التي تشترك فيها كلتا المجموعتين فتكمن في إيمانهما معاً بأنّ الإمام الحسين قد اختار الشهادة هدفاً لنفسه.
وبلحاظ آخر يُمكننا تقسيم المعتقدين بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» إلى طائفتين: طائفة ركّزت على الجوانب النفسيّة والفرديّة لكربلاء؛ وطائفة أخرى اهتمّت بالانعكاسات الاجتماعيّة لتلك الواقعة، وبمستويات أعمق من الجوانب الفرديّة.
وتسعى كلّ واحدة من هاتين الطائفتين إلى ربط المجالات التي تهتمّ بها ببعض الانعكاسات الخاصّة التي خلّفتها حادثة كربلاء.
وبإمكاننا تقسيم هاتين الطائفتين الرئيسيّتين إلى مجموعتين: القدماء؛ والمعاصرين.
القدماء: وهم الذين لم يهتمّوا ـ عند اعتبارهم الشهادة بمثابة هدف ـ بالانعكاسات التي خلّفتها شهادة الإمام الحسين ـ نظير صاحب اللهوف ـ، واكتفوا بمجرّد عرض الشهادة كهدف؛ أو أنّهم اهتمّوا بذلك، لكنّهم اقتصروا على بحث انعكاسات هذه النهضة بلحاظ الروايات التي جعلت فضلاً كبيراً للبكاء على الإمام الحسين. ويعتقد هؤلاء بأنّ هذه الشهادة الدامية والمأساوية خلقت بعض الأوضاع التي فتحت للناس ـ عند التوسّل بها، والبكاء عليها ـ أبواب المغفرة إلى الأبد.
وهَمُّ هذه المجموعة هو الحصول على العفو والغفران الإلهي، من خلال عرض وقائع مأساوية، وباعثة على البكاء، كما أنّهم يُركِّزون بشكلٍ أساسيّ على الدور الذي لعبه البكاء على الإمام الحسين عبر التاريخ. ويعتقد هؤلاء بأنّ البكاء على الإمام الحسين هو نافذةٌ مفتوحة على الجنّة.
المعاصرون: ويقف هؤلاء في مقابل القدماء؛ حيث يرون بأنّ الانعكاسات التي خلّفتها واقعة كربلاء تشمل بشكلٍ أساسيّ دائرة المجتمع، أكثر من استيعابها لدائرة الفرد. وينتمي إلى هذه الفئة أفرادٌ من قبيل: شريعتي، وآيتي، والشهرستاني. ويرى المعتقدون الجدد بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» بأنّ المخلَّفات الأساسيّة لحادثة كربلاء تكمن في تشكُّل طيف من الأحداث المختلفة، التي من جملتها موت يزيد، والثورات الدمويّة، وتبلور بعض المسيرات الإصلاحية عبر تاريخ التمييز بين الحقّ والباطل، وخلق نموذج مثالي ومثل أعلى يفصل بين هذين الاثنين، والقيام بإصلاحات، و… وقد حاول كلّ واحد من هؤلاء المفكِّرين التمسّك بأحد العوامل السابقة، أو ببعضٍ منها، وكذلك ببقيّة العوامل الاجتماعيّة لواقعة كربلاء.
ويُركِّز قدامى المعتقدين بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» على دور البكاء والجوانب الفرديّة. وحتّى إذا ما ترقَّوْا وأبدعوا في مجال البحث حول كربلاء من ناحية الآثار الاجتماعيّة فإنّ غاية ما يُشيرون إليه هو تشكيل المجالس العموميّة عبر التاريخ، واستمرار هذا المسار في دائرة الحياة الاجتماعيّة الشيعيّة. بينما يُركِّز المعتقدون الجُدد بنظريّة «النزوع نحو الشهادة» بشكلٍ أساسي على الهموم الاجتماعيّة، ويرَوْن بأنّ معيار تأثير كربلاء هو أعلى من أن تنحصر قيمتُه في إحياء المناسبات الفرديّة.
الإشكالات المشهورة على نظريّة «كون الشهادة هي الهدف»
إذا كان هؤلاء الأشخاص يرَوْن بأنّ علم الإمام الحسين بالمستقبل بمثابة دليل يُجوِّز لهم تبنّي هذه النظريّة فينبغي أن يُقال ـ جواباً لهم ـ بعدم وجود أيّ تلازم بين العلم بالشهادة واتّخاذها هدفاً. وبتعبير أفضل: إذا كان من المفروض أن يُستشهد الإمام الحسين فهذا لا يعني بأنّه سيتّخذ الشهادة هدفاً سياسيّاً له.
وعلاوة على ذلك تحكي لنا دراسةُ ردود أفعال الإمام الحسين، والقرارات التي تبنّاها في مختلف المواقف، عن سعيه نحو طرح برنامج سياسيّ، يضمن له الحضور الفعّال على الساحة السياسيّة. ويكتسب هذ الموضوع أهميّته بلحاظ أنّ مسألة طرح برنامج وخطّة في العمل السياسيّ تُعبّر عن التمتُّع بهدفٍ يحتاج بلوغُه إلى التخطيط.
الإشكال الأوّل: عند مُتابعة مسيرة الأحداث والتقدُّم لخطوات في اتّجاه الأيّام القاسية سيبرز أمامنا سلوكٌ مُغاير صدر عن الإمام(عليه السلام)، لا ينسجم كثيراً مع المواقف التي اتّخذها في المقطع المبحوث عنه. فعندما منع الحُرُّ ومِن بعده ابنُ سعد، الإمامَ الحسين(عليه السلام) من المسير، طلب منهم أن يسمحوا له بالرجوع إلى محلّ إقامته في المدينة([31]).
ومن الطبيعي أن يكون التعبير بمثل هذا الكلام متناقضاً مع النزوع نحو الشهادة، بحيث قد يُعدّ ذلك في إطار التبرير لمسألة الرغبة في الحكم.
وجواباً عن هذا الإشكال يُمكننا القول بأنّ الإمام كان يريد إقامة الحجّة.
لكنّ هذا الجواب يحتاج إلى دراسةٍ وتحقيق أكثر.
الإشكال الثاني: إنّ الشواهد التي أتَيْنا بها سابقاً من أجل دعم نظريّة «النزوع نحو الحكم» ـ والتي من أهمّها أخذ البيعة، وإرسال مسلم ـ تُمثّل في حدّ ذاتها أشهر الإشكالات المطروحة على نظريّة «النزوع نحو الشهادة».
وعند هبة الدين الشهرستاني كلامٌ حول الجواب عن هذا الإشكال، يحتاج إلى بحثٍ وتحقيق. وسنسعى من جهتنا للخوض فيه؛ لمجرّد فتح الباب أمام دراسات مستقبليّة إذا ما أُتيحت الفرصة لذلك لاحقاً.
ينظر هبة الدين الشهرستاني إلى كربلاء من زاوية مختلفة، ويرى أنّ توجّه الإمام(عليه السلام)نحو الكوفة كان في سبيل إقامة الحجّة.
وفي تفسير هذا الكلام وتحليله يُمكننا القول بأنّه ينبغي عدّ المطالبات المتراكمة لأبناء عليّ× عاملاً مهمّاً في وقوع حادثة كربلاء. فلو أنّ الإمام الحسين لم يستجِبْ لدعوة الناس لأدّى ذلك إلى انتشار اليأس الاجتماعيّ والسياسيّ بين الذين دعوه للمجيء وعامّة الناس؛ لأنّه قد مرّت سنوات طوال دون أن يستجيب أهل البيت لدعوة الناس لإقامة الحكومة.
ومن خلال الاستجابة لدعوة الكوفيّين فإنّ الإمام الحسين، مضافاً إلى إبراز مدى التزامه بمسألة تأسيس نظام جديد للحكم، سعى إلى إتمام الحجّة عليهم. وقد بيَّن(عليه السلام) أنّ أهل البيت وأبناء الإمام عليّ لم يمتنعوا عن الاستجابة لدعوة الناس؛ بسبب قلّة سعيهم، بل إنّ ذلك نتيجةٌ لعجز الناس، وفتور همّتهم، وتقلّبهم.
إذا ما درسنا نظريّة إتمام الحجّة، التي جاء بها الشهرستاني، بشكلٍ أعمق فإنّنا سنقف على التوقُّع الثنائي الذي تبلور من خلال هذه الحادثة؛ فمن جهة أولى لو أنّ الأئمّة لم يستجيبوا لدعوة الناس لأدّى ذلك إلى ظهور إحساسٍ وفهم كاذب بينهم، وهو ما يعني في الواقع إقامة الحجّة على الأئمّة؛ ومن جهة أخرى فإنّ الإمام الحسين سعى إلى إقامة الحجّة على الناس من خلال الرضا بالشهادة، ولو أنّه(عليه السلام) لم يفعل أيّ شيء فإنّ ذلك سيترك ـ مضافاً إلى الإحباطات الاجتماعيّة ـ انطباعاً لدى الناس بأنّ الأئمّة كانوا يرفضون دعوتهم في كلّ مرّة بنحوٍ من الأنحاء، وسيؤدّي ذلك إلى تبلور أحكام خاطئة في أذهان الناس عن أدائهم^، وجعل الظروف الاجتماعيّة المساعدة على اتّخاذ مواقف سياسيّة من قِبل الأئمّة باهتة وضئيلة.
فبالإضافة إلى ما قام به الإمام الحسين ـ عندما اختار طريق الشهادة ـ من إعادة تشكيل لذهنيّة الكوفيّين فقد قام بتمهيد الأرضيّة المناسبة لبقيّة أعضاء أهل البيت من أجل اتخاذ إجراءات سياسيّة في المستقبل. وبذلك سعى الإمام الحسين عن طريق إتمام حجّته إلى تجفيف منابع التشاؤم التاريخي، الذي تشكَّل قسمٌ منها في زمان صلح الإمام الحسن. فلو لم يتَّخذ الإمام الحسين أيّ موقف فمن المحتمل أن لا تتهيّأ أيّ فرصة مناسبة لباقي الأئمّة بشكلٍ مطلق.
الإشكال الثالث: كان الإمام الحسين يصرّ على الرجوع بعد عرقلة الحُرّ وابن سعد إيّاه، وهو ما لا ينسجم مع فكرة كون الشهادة هي الهدف بالنسبة إلى الإمام.
ويُمكننا القول، جواباً عن ذلك: إنّما عبّر الإمام عن ميله إلى العودة بعد ممانعة الحُرّ وابن سعد من دخول الكوفة؛ لعدم إفضاء ذلك إلى حصول أيّ انعكاسات أو آثار سلبيّة، ممّا عدَّدناه سابقاً في مرحلة الاطّلاع على خبر شهادة مسلم، نظير: نقض الأهداف، وتقوية حكومة يزيد اللاشرعية. وها هو الإمام الحسين قد سعى حثيثاً حتّى شارف أبواب الكوفة، وبقي ثابتاً على مواقفه، على الرغم من تلبُّد آفاق المواجهة. ومضافاً إلى ذلك فقد سُلب منه في تلك الظروف الطارئة عنصر الاختيار، وسُدّ في وجهه طريق الكوفة بشكل عمليّ.
وفي هذه الحالة لن تكون عودته اختياريّة، بل ستكون إجباريّة، وشاهدةً على لجوء اليزيديّين إلى استعمال العنف. اللهمّ إلاّ أن نعدّ فعل الإمام شكلاً من أشكال إقامة الحجّة في تلك الظروف.
يتبع...
*الشيخ أحمد مبلّغي
--------------
([14]) من المحتمل أن يكون الإمام الحسين في هذه المرحلة مطّلعاً على أنباء وأخبار جعلت من الصورة العامّة لشهادته أكثر وضوحاً وجلاء، وهي أخبار وأنباء قد تكون خافيةً عن الكثير من النخب. وعليه، مع أنّ النـزوع نحو الحكم كان حتّى الآن هو الهدف الأوّل للإمام الحسين، لكنْ ابتداء من هذه المرحلة ستحتلّ الشهادة ـ كأحد الخيارات الأساسيّة ـ مكانةً مهمّة في تفكيره (عليه السلام) . وببيان أوضح: إنّ الأوضاع السياسيّة كانت إلى ما قبل هذه المرحلة تؤيّد الشواهد الدالّة على نجاح المساعي المبذولة من أجل تأسيس الحكومة.
ومن المحتمل أن تكون التقارير التي وصلت إلى الإمام بعد الجهود المكثّفة التي بذلها بنو أميّة في الكوفة قد نجحت في تكدير أجواء النصر. ولهذا السبب لن يكون بمقدور الإمام الحسين(عليه السلام) من جهة أولى أن يُدير ظهره للطريق الذي اختاره بنفسه، ويتخلّى عنه؛ ومن جهة أخرى؛ وبسبب مواجهته لحشد من الأنباء المريرة، فإنّه سيعمل على إحداث تغيير على مستوى أدبيّات الثورة عند إلقائه للخطبة المذكورة. والشاهد على هذه الدعوى أنّ العديد من المشفقين والناصحين تحدّثوا في تلك الأيّام عن حالةٍ من الاضطراب والإخفاق تعيشُها الكوفة.
وتحكي شواهد من هذا القبيل على أنّ الأياّم الأخيرة للإقامة في مكّة كانت علامةً على تبلور أوضاع مختلفة. لكنّ إثبات هذه الفكرة هو مسألة تحتاج إلى دراسة تحقيقيّة وتاريخيّة، وطرحُها في هذه المقالة يقتصر على المهتمّين بالدراسات التحقيقيّة الجادّة فقط. وسنخوض من جهتنا في بيان وتحليل مثل هذه الاحتمالات من دون إصرار وتأكيد؛ وذلك لمجرّد فتح فصل جديد من البحث والتحقيق.
([15]) ويقول أيضاً: فمن خلال عبارة: «خُطّ الموتُ على وُلد آدم» يُشير الإمام إلى أنّ إصلاح الفساد الاجتماعي والديني ـ ولو كان على يد شخصٍ مثل: ابن بنت رسول الله ـ لا يتيسّر إلاّ عن طريق الموت والشهادة. وقد كان كلّ حديثه في هذه الخطبة التي ألقاها قبل مغادرة مكّة يدور حول الشهادة والموت، والوقوع فريسةً لذئاب كربلاء الجائعة. (محمد إبراهيم آيتي، بررسي تاريخ عاشورا (دراسة حول تاريخ عاشوراء): 84).
([16]) علي شريعتي، الحسين وارث آدم: 152.
([17]) تلخيص الشافي 4: 187.
([18]) مع أنّه لم يستعرض هذه المسألة بهذه الكيفيّة.
([19]) الحسين وارث آدم: 153.
([20]) ابن طاووس، اللهوف: 18.
([21]) الحسين وارث آدم: 224.
([22]) ويقول في هذا الصدد: …يثور ليموت؛ إذ أنّه لا يملك سوى الموت سلاحاً يتسلَّح به من أجل المواجهة، وفضح العدوّ، وتمزيق أقنعة المكر والخديعة، التي أخفت الوجه الكريه للنظام الحاكم، ومن أجل ضخّ دماء جديدة من الحياة والجهاد في الجسد الميّت لهذا الجيل، الجيل الثاني من ثورة النبيّ محمّد. إنّه وحيدٌ أعزل، لا يملك سلاحاً ولا قوّة، وفي ذات الوقت مكلَّفٌ بالجهاد، فلا سلاح له إلاّ الموت، ولا مناص له من اختيار الموت الأحمر. (الحسين وارث آدم: 192).
([23]) ومن هنا فإنّ شريعتي كان يعدّ الهجرة من المدينة إلى مكّة، والهجرة من مكّة إلى الكوفة، في ضمن مخطّط واحد. (راجع: الحسين وارث آدم: 152).
([24]) المصدر السابق: 237.
([25]) المصدر السابق: 248.
([26]) هبة الدين الشهرستاني، نهضة الحسين: 42.
([27]) بررسي تاريخ عاشورا (دراسة حول تاريخ عاشوراء): 85.
([28]) المصدر السابق: 79.
([29]) المصدر السابق: 83.
([30]) المصدر السابق: 84.
([31]) الإرشاد 2: 78؛ ابن كثير، البداية والنهاية 8: 184.