فلسفة النهضة الحسينية.. قراءة جديدة في النظريات القائمة (1)

الثلاثاء 3 أكتوبر 2017 - 05:44 بتوقيت غرينتش
فلسفة النهضة الحسينية.. قراءة جديدة في النظريات القائمة (1)

النهضة الحسينية - الكوثر

 نظراً لما تتوفّر عليه النهضة الحسينية من أبعاد خاصّة تفرَّدت بها فقد جذبَتْ نحوها العديد من النظريّات عبر التاريخ ، وهي تنتظم في طيفٍ متنوّع وواسع من الدراسات والرؤى التاريخيّة والكلاميّة والسياسيّة والفقهيّة وغيرها.

وقد انتهى هذا التنوّع والتعدُّد في طرح النظريات حول تلك النهضة التاريخيّة إلى توفّر نتاج وافر وثريّ يتناولها. غير أنّه رغم كلّ ذلك لا يزال يظهر على ضوئها جوانب وتساؤلات تنتظر الجواب. ولا تتيسّر الإفادة من هذا النتاج ما لم يعدّ لذلك خير إعداد، بما يرفع عنه الإبهام.

والعمل على المقارنة بين النظريّات المطروحة في هذا المجال، وإعادة قراءتها في هذا السياق، هو جهد كفيل بالنهوض بهذه المهمّة إلى حدٍّ كبير. وتتكفّل هذه المقالة، في رسالتها التي ترمي إليها، بعقد هذه المقارنة. فهي تسعى إلى تحقيق النقاط التالية:

أوّلاً: أن تضع كلّ ما قيل وطرح في هذا المجال ضمن بنية مقارنة منسجمة ومنظَّمة نتوصّل منها إلى معرفة منزلة كلّ نظريّة بالقياس إلى النظريّات الأخرى، ونسبتها إليها.

ثانياً: أن تفتح الطريق ـ ولو بنسبة معيّنة من النجاح ـ أمام المسائل والتحليلات الجديدة المطروحة في جميع الميادين، وبالنسبة لكافّة النظريّات المقترحة؛ من أجل دراسة هذه النهضة، والبحث حولها في المستقبل.

وقد طرحت في مجال فلسفة النهضة الحسينية والأهداف التي ترمي إليها نظريّات عديدة، أهمّها:

1ـ إقامة الحكومة.

2ـ طلب الشهادة.

3ـ الفرار من الموت.

4ـ الأهداف المتوازية.

5ـ مواجهة حالة الانغلاق السياسي السائدة في عصر يزيد.

(6 – نظريّة الأهداف ذات المستويات المتعدِّدة (نظريّة جديرةٌ بالبحث)

وسنسعى هنا إلى بحث كلِّ واحدة من هذه النظريّات على حِدَة:

1ـ إقامة الحكومة

كثيرون هم الذين تبنّوا النظريّة القائلة بأنّ «إقامة الحكومة هي هدف الإمام الحسين»، ولكنْ كلُّ واحدٍ نظر من زاوية تغاير زوايا نظر الآخرين. وسنعمد هنا إلى المرور في عجالة على تلك النظريّات:

أـ نظريّة الشيخ الطوسي

استناداً إلى رؤية خاصّة انتهى الشيخ الطوسي في دراسته لعصر الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أنّ حركته نحو الكوفة كانت خطوةً في طريق تأسيس الحكومة. فقد ارتكز إلى أنّ الإمام إذا ما قَوِيَ في ظنّه تأثير فعلٍ ما في تشكيل الحكومة وجب عليه الإقدام عليه.

ويقول في هذا الصدد: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه، والقيام بما فُوّض إليه، بضربٍ من الفعل وجب عليه ذلك، وإنْ كان فيه ضربٌ من المشقّة([1]).

ففي دراسة تاريخيّة خاصّة لظروف العصر الذي انبثقت فيه واقعة كربلاء رأى أنّ العوامل والظروف المحيطة بتلك الحادثة كانت تحتمل احتمالاً يعتدّ به في أن تكون أعمال التحريض السياسيّ ضدّ يزيد، والجهود المبذولة في سبيل تأسيس حكومة، أعمالاً وجهوداً مثمِرة؛ ومن هنا غلب الظنّ على الإمام الحسين بحصول النصر. وفي هذا الصدد يقول: إنّ أسباب الظفر بالأعداء كانت لائحة([2]).

ويقول أيضاً: وأبو عبد الله(عليه السلام) لم يسِرْ طالباً الكوفة إلاّ بعد توثُّقٍ من القوم وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه(عليه السلام) طائعين غير مكرهين

ب ـ نظريّة الشيخ صالحي النجف آبادي

يعَدّ الشيخ صالحي النجف آبادي من المحقّقين المعاصرين الذين انكبّوا على دراسة النهضة الحسينية (عليه السلام) انطلاقاً من رؤية خاصّة. وقد انتهى إلى أنّ هدف الإمام من النهضة هو إقامة الحكومة.

وتحقيقاً لاتّسام بحثه بالحرّيّة فقد حرص منذ البداية على عدم الخوض في المبنى الكلامي القائل بعلم الإمام، وانطلق في دراسته من المبدأ القائل بضرورة دراسة نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) مع غضّ النظر عن مسألة علم الإمام بالغيب، والتي أدّت إلى انقسام العلماء إلى فئتين متقابلتين([3]).

وقد قسّم حركة الإمام الحسين في نهضته إلى مراحل عدّة:

اعتبر بأنّ المرحلة الأولى تكمن في صمود الإمام في وجه استفزازات الحكومة وأطماعها الزائدة. فباعتقاده أنّ الإمام كان يهدف في هذه المرحلة إلى تقييم الظروف المحيطة به، وتحليل الأوضاع السائدة حوله، شأنه في ذلك شأن أيّ سياسي آخر.

وبعبارة أخرى: إنّ الهمّ الأساسي الذي كان يشغل الإمام الحسين(عليه السلام) في هذه المرحلة هو تقييم الأوضاع في سبيل إقامة الحكومة. وتبدأ هذه المرحلة من حين خروج الإمام الحسين(عليه السلام) وتستمرّ إلى زمان إقامته بمكّة.

وتتألَّف المرحلة الثانية من صمود الإمام ووقوفه في وجه تجاوزات حكومة ذلك العصر من جهة، وعمله على الوصول إلى الحكم وتهيئة الظروف اللازمة لذلك من جهة أخرى. وتستغرق هذه المرحلة الفترةَ الواقعة بين خروج الإمام من مكّة وبين مواجهته لجيش الحُرّ.

وتشرع المرحلة الثالثة بدورها من حين المجابهة مع الحُرّ، وتستمرّ في داخل الفترة التي بدأت منها، حيث سعى فيها الإمام الحسين إلى تجنّب وقوع الحرب، والتوصّل إلى صلحٍ يحفظ له شرفه. وقد بلغ الإمام في سعيه هذا إلى حدّ إقناع عمّال الحكومة بالصلح.

وأمّا المرحلة الرابعة والنهائيّة فتبدأ من حين هجوم قوات العدوّ. وما قام به الإمام الحسين في هذه المرحلة كان عبارة عن دفاع مستميت، يبعث على الفخر، في مقابل هجوم دمويّ ووحشيّ… دفاع اختتم بشهادته(عليه السلام).

ومن أجل إثبات مدّعاه القاضي بتشكُّل النهضة الحسينية من أربع مراحل فإنّه قام بإيراد أدلّةٍ على كلّ مرحلة بشكلٍ تفصيلي([4]).

وخلاصة القول: لم يكن الإمام الحسين، وفقاً لهذه النظريّة، يسعى نحو هدف واحد من البداية حتّى النهاية، بل كان يتعرَّض لتعيين الاستراتيجية، وتحديد الهدف، حسب الوضعيّة التي يتواجد فيها. وعليه تعتقد هذه النظريّة بأنّ هدف الإمام الحسين كان يرتبط في المرحلة الأولى بالحكومة، وفي المراحل اللاحقة بمسائل أخرى، من قبيل: العودة إلى المدينة، والشهادة. وفي هذه الحالة ستترك شهادته (عليه السلام) مع أهل بيته تأثيراً أعمق.

الشواهد المؤيّدة للنظريّة، والإشكالات المشهورة الواردة عليها

هناك العديد من الشواهد والمؤشّرات التي تُقوّي الادّعاء القائل بأنّ الإمام شدّ أمتعته وتوجَّه نحو الكوفة عازماً على إقامة نظام للحكم، بحيث كان هدفه يتعلّق بالقيام بهذا الفعل.

غير أنّ هذه النظريّة تُعاني في نفس الوقت من بعض الإشكالات، التي يلزم حلُّها علميّاً؛ لكي نقول بتماميّتها.

وفي ما يلي سنشير أوّلاً إلى الشواهد المؤيِّدة للنظريّة، وبعد ذلك سنتعرّض للإشكالات المشهورة الواردة عليها:

أولاً: الشواهد المؤيِّدة للنظريّة

الشواهد التالية تدلّ على اعتبار إقامة الحكومة بمثابة الهدف من نهضة الإمام الحسين(عليه السلام):

1ـ قصّة مسلم

فحكاية ذهاب مسلم إلى الكوفة، مبعوثاً من قِبل الإمام، تُعبّر من عدّة جهات عن سعيه(عليه السلام) للحكم، من خلال النهضة التي شيّد دعائمها بنفسه:

أـ أصل بعثه إلى الكوفة

ويوجد لدينا رأيان حول هدف الإمام(عليه السلام) من إيفاد مسلم إلى الكوفة:

الرأي الأوّل: ومفاده أنّ إرسال مسلم كان بهدف تقييم الظروف العمليّة المساعِدة على إقامة الحكومة. ويتبنّى الإمام الخميني هذا الرأي، فيقول: لقد أرسل مسلم لكي يدعو الناس إلى البيعة؛ من أجل إقامة الحكومة، والقضاء على ذلك الحكم الفاسد([5]).

الرأي الثاني: ويقول بأنّ إيفاد الإمام الحسين(عليه السلام) لمسلم كان من أجل اختبار دوافع أهل الكوفة. وعليه يكون الهدف من إرساله هو تقييم مدى صحّة وصدق ادعاءات الكوفيّين وتقاريرهم. وقد تمّ الحديث بشكلٍ صريح عن هذه الوظيفة ـ التي يقول بها الرأي الثاني ـ، وذلك في قسمٍ من الرسالة التي بعثها الإمام(عليه السلام) إلى الكوفة عند إيفاده مسلماً إلى تلك الديار، حيث كتب لهم ما يلي: فَإِنْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلئكُمْ وذَوِي الْحِجَا والْفَضْلِ مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا قَدِمَتْ بِهِ رُسُلُكُمْ، وقَرَأْتُ فِي كُتُبِكُمْ، أَقْدِمُ عَلَيْكُمْ وَشِيكاً إِنْ شَاءَ الله([6]).

لو قبلنا بأيّ واحد من الرأيين السابقين فينبغي علينا أنّ نعدّ إرسال مسلم علامةً على طلب الإمام الحسين( عليه السلام) وسعيه للحكم. وبعبارة أخرى: إنّ دراسة الرأيين السابقين تدلّنا على أنّه باستطاعة كلّ واحد منهما أن يكون شاهداً على رغبة الإمام الحسين في الحكم.

فبحسب الرأي الأوّل يكون مسلم قد سار نحو الكوفة من أجل توجيه الناس وتحفيزهم أكثر على مسألة إقامة الحكومة.

كما أنّ الرأي الثاني ـ بضميمة حدثٍ تاريخي آخرـ يُعدّ بدوره تأكيداً على توجُّه الإمام الحسين ونزوعه نحو الحكم. ويكمن هذا الحدث في بعث مسلم لرسالة إلى الإمام الحسين يطلب منه فيها أن يتعجَّل القدوم إلى الكوفة؛ لأنّ الناس معه([7]). والعجيب في الأمر أنّ الإمام الحسين توجّه نحو الكوفة بمجرّد وصول الرسالة، ومن غير انتظار([8]).

فلو لم تُرسَل الرسالة، ويُجِب الإمام الحسين عنها عملياً، لكان من المحتمَل أن نعتبر مهمّة مسلم مجرّد حركة سياسيّة؛ من أجل تقييم الظروف الممهّدة للحكم، لا مهمّة مشخّصة في سبيل تهيئة الأرضيّة للحكم، وتقديم تقريرٍ يؤسِّس لمسألة تشكيل الحكومة والخطوات السياسيّة التالية، إلاّ أنّه ومع وجود هذه الرسالة، وجواب الإمام العملي عنها، فإنّ هذا الاحتمال يعدّ مردوداً.

وعلى أيّ حال فإنّ المتواجدين في قلب الأحداث السياسيّة كانوا على علمٍ، منذ توجّه مسلم نحو الكوفة، بعزم أهلها على مواجهة يزيد، وإقامة نظام للحكم على يد الإمام الحسين؛ فيكون بعث مسلم في مثل هذه الظروف بمثابة تأييدٍ لرغبتهم.

ب ـ فهم السفير للمهمّة الملقاة على عاتقه، وتصرّفاته وفق ذلك

فالفهم الذي كان يحمله السفير الخاصّ للإمام الحسين(عليه السلام) عن المهمّة المسندة إليه هو مؤشّر جديد على حاكميّة ذلك الفهم على الأجواء السائدة في المجتمع آنذاك، والذي مفاده أنّ الإمام الحسين يسعى نحو إقامة نظام للحكم. ويتبلور فهم السفير للمهمّة المناطة به من خلال الخطوات التي قام بها؛ حيث إنّ دراسة الإجراءات التي اتّخذها مسلم ـ ومن جملتها: أخذه للبيعة؛ بعثه برسالة إلى الإمام؛ وكذلك بالنسبة للرسالة المعبِّرة عن خيبة أمله، والتي أرسلها إلى الإمام الحسين بعد إعراض الناس عنه، وطلبه منه عدمَ المجيء إلى الكوفة ـ تدلّ على الفهم والرؤية التي كان يحملها المقرَّبون من الإمام الحسين عن مواقفه.

ج ـ ردّة الفعل التي أبداها الكوفيّون ونُخبة القوم حيال السفير

حيث يدلّ ذلك بشكلٍ واضح على نظرتهم للخطوات التي اتّخذها الإمام الحسين. والظاهر أنّ جميع مَنْ كان في الكوفة كان يعتقد بأنّ مسلماً لم يضع قدمه هناك إلاّ من أجل الإعداد لإقامة نظام للحكم. فمن المتيقّن أنّه في الوقت الذي عبر فيه مسلم بوّابة الكوفة اطمأنّ أهل الكوفة إلى أنّ الإمام الحسين قد استجاب لمطالبهم، وأرسل مبعوثاً خاصّاً؛ تأييداً لرغبتهم تلك([9]).

من المحتمل أنّه لو عثرنا على طريق يُمكّننا من التسلّل إلى الجوّ الحاكم على الكوفة في ذلك العصر، بحيث يكون في استطاعتنا العيش في تلك الظروف ـ مع عدم الاطّلاع على عاقبة دعوة الكوفيّين ـ، لحكمنا على ورود مسلم بأنّه يُشكّل جواباً قاطعاً لمطالبات الكوفيّين، وقد وصلهم جواب عمليّ من طرف الإمام، إلاّ أنّ تراجعهم صار سبباً في حدوث واقعة كربلاء.

وعلى هذا فكلُّ ما قام به الكوفيون، سواءٌ عندما ذهبوا لاستقبال مسلم بكلّ حفاوة وترحاب، وفتحوا له أبواب المدينة، أم حين تنحَّوا عنه، وتركوه وحيداً فريداً، كلُّ ذلك يدلّ على ذلك الفهم. ففي حالةٍ يكون موضع تأييد كبير؛ بسبب الرغبة في عمليّة التغيير، وفي حالة أخرى يتعرَّض للطرد بقسوة؛ بسبب الخوف من العقاب، أو لبواعث أخرى، من قبيل: بروز مصالح جديدة. هذا ما لا يُمكن تصوُّره في حقّ أيّ سفير، إلاّ إذا كان يرغب في تغيير نظام الحكم.

2ـ أقوال أعداء الإمام الحسين(عليه السلام)، ومواقفهم، وردود أفعالهم، وإجراءاتهم

من اللازم التحرّي عن بعض الشواهد في ضمن كلمات أعداء الإمام الحسين(عليه السلام)، ومواقفهم، وردود أفعالهم، والإجراءات التي اتّخذوها. فتجهيز جيش كبير وضخم، وإثارة الناس بشكل واسع، وإرسال قوّات عظيمة؛ من أجل حماية ابن زياد من الكوفيّين، والأهمّ من ذلك كلّه إطلاق اسم الخوارج ـ وهو مصطلح سياسي بمعنى الخروج عن النظام الحاكم ـ على الإمام الحسين وأصحابه، كلُّ ذلك يفضي بنا إلى القول بأنّ الناس، النخبة منهم والصديق والعدوّ وكلّ مَنْ تحدّث عن هذا الأمر أو ترك حوله بصماته على صفحات التاريخ، يُشيرون إلى أنّهم كانوا يعدّون الحركة التي قام بها الإمام الحسين(عليه السلام) حركةً في اتجاه إقامة الحكومة.


3ـ اختيار مدينة الكوفة

تُشير مسألة اختيار مدينة الكوفة إلى فترة خلافة الإمام علي(عليه السلام). والظاهر أنّها المدينة الوحيدة التي كانت تتهيّأ لها الأرضيّة المناسبة من أجل استلام الإمام الحسين للحكم، بحسب الظروف السائدة في ذلك العصر. فيكون الرجوع إليها في حدّ ذاته علامةً على رغبته(عليه السلام) في إقامة نظام للحكم.

4ـ الاستفادة من آليّة البيعة طوال مدّة الحادثة

فالاستفادة من آليّة البيعة عبر المدّة التي استغرقتها الحادثة ـ وخصوصاً في مكّة، وقبل الرحيل إلى الكوفة ـ تُعدّ من الشواهد التي يصحّ لنا الاستناد إليها. والبيعة هي آليّة وعمليّة يتجلّى معناها في تعيين الخليفة وإقامة الحكومة. وعلى الرغم من أنّنا كنّا نحسب أيضاً توديع الإمام لأصحابه في الليلة الأخيرة، وردّهم الحماسي والعاطفي عليه، بيعةً، إلاّ أنّ مثل هذه التصرُّفات في الواقع وحقيقة الأمر لا تُعدّ كذلك بحسب الأعراف السياسيّة. على أنّه بالإمكان التعرّف على بعض مظاهر مبايعة الإمام الحسين من خلال متابعته(عليه السلام) لرسائل الكوفيّين، وهي رسائل تُفصح عمليّاً عن رغبة مدينة الكوفة في إقامة نظام حكمٍ جديد. كما أنّ التقارير الأوّلية التي بعثها مسلم، والمعبِّرة عن ميل شديد لأهل الكوفة تجاه الأمر، وعن تقديمهم لبيعات متواصلة، تُشكِّل دليلاً واضحاً على تبلور توجُّهات قد تنتهي إلى إقامة حكومة في حالة النصر.

5ـ الثقافة السائدة في ذلك العصر

حيث تدلّنا دراسة الظروف المتقدّمة على حادثة كربلاء على تبلور ثقافة تغييريّة وسط النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، تسعى للإطاحة بحكومة يزيد. وتشكّل النماذج التي سنعرضها في ما يلي قسماً مهمّاً من الأجواء السياسية السائدة في ذلك العصر، والتي يُمكننا من خلالها التعرُّف بشكل أفضل على منشأ القرارات التي اتّخذها الإمام الحسين. على أنّه لا ينبغي نسيان أنّ الثقافة السياسيّة ـ الاجتماعيّة التغييريّة السائدة في كلّ عصر لا تُبرز لنا إلاّ قطعة من صورة التحوّلات الجارية فيه، وقسماً من الشواهد التي تستند إليها هذه التحوّلات.

فالشيء الذي يعطي للثقافة والأدبيّات صموداً أكبر في مقابل الشواهد والمؤشِّرات الأخرى هو حكايتها عن المحتوى الداخلي للمواقف السياسيّة والسلوكيّات الاجتماعيّة، وعن العادات والأفكار التي تُشكّلها.

وفي هذه الحالة سيكون الإفراط في تضخيم صورة الثقافة ناتجاً عن النظرة الساذجة التي يُنظر بها إلى المسائل الاجتماعيّة. فأصالة الثقافة وصحّتها من جهة، وتعهّدُنا بشكل أكبر بتقديم فهم أصحّ عن هذه الثقافة من جهة أخرى، كلّ ذلك سيُفضي بنا إلى الاعتماد على الثقافة والأدبيّات، وجعلها مورداً للبحث، عند مواجهتنا للأحداث السياسيّة، وسعينا نحو معالجتها.

ولذلك علينا أن نضع في ضمن جدول أعمالنا مسألة التجوال في الثقافات والأدبيّات السائدة في كلّ عصر، وفي التحوّلات السلوكيّة الطارئة على ذلك العصر، وعقد مقارنة بينها.

فبالإضافة إلى أنّ هذه المنهجيّة ستضفي غنىً أكبر على فهمنا للثقافة، فإنّها ستعمّق نظرتنا إلى السلوكيّات والأساليب العمليّة المتّبعة. ومع الالتفات إلى هذه النقطة فإنّ قضيّة الاستفادة في هذه المقالة من الأدبيّات السياسيّة السائدة في عصر الإمام الحسين(عليه السلام) ستحمل على عاتقها عبء قسم من الاستدلالات والقرائن فقط. وحتّى لو تمّ اعتبارها بمثابة نقطة ارتكاز فإنّها لن تستطيع أبداً التكفُّل لوحدها بإثبات المدَّعى.

وبعبارة أخرى: ستكون مجرّد شاهدٍ، لا أكثر، على أنّ الإمام قد اختار هدفاً ينقدح معناه من بين تطلّعات الناس وتوقّعاتهم في ذلك العصر. وسنحاول استشراف هذه الوضعيّة من خلال القرائن التالية:

الثقافة الحاكمة على مكّة حين خروج الإمام من الكوفة

سنتعرّض هنا إلى ذكر نموذجين:

أـ كلام الفرزدق عند توجُّه الإمام نحو الكوفة

لقد حذَّر الفرزدقُ وآخرون الإمامَ(عليه السلام) من الذهاب إلى الكوفة. وفي ضمن ذلك أماطت عبارة الفرزدق المشهورة اللثامَ عن الذهنيّة العامّة الحاكمة على نخب ذلك العصر؛ حيث قال فيها، قاصداً صرف الإمام الحسين(عليه السلام) عن الذهاب إلى الكوفة: قلوبهم معك، وسيوفهم عليك([10]).

فبالنظر إلى كون السيف يُعدّ مظهراً بارزاً لمسألة إحداث تغييرات في أسلوب الحكم، والإطاحة بالحاكم المتمكِّن، يُمكننا القول بأنّ الفرزدق كان ينظر إلى الإمام الحسين كشخصٍ يُناضل من أجل إسقاط حكومة يزيد، وإقامة حكومة جديدة. وبعبارة أخرى: كان الفرزدق يُنبئ في تلك الظروف التي توجَّه فيها الإمام نحو الذين دعَوْه إلى إقامة الحكومة ـ وهم أهل الكوفة ـ عن أنّ السيف (العامل المساعِد على تأسيس الحكومة) ليس مع الإمام، بل هو عليه. وبناءً عليه، ومن خلال نفيه لاستعداد الناس عمليّاً، يُفصح لنا الفرزدق ـ بصفته واحداً من نخب المجتمع ـ عن توقُّعه الخاصّ من هجرة الإمام الحسين(عليه السلام).

ب ـ كلام ابن عبّاس عند توجُّه الإمام نحو الكوفة

فعند تحرّك الإمام في اتّجاه الكوفة حاول ابن عبّاس صرفه عن ذلك القرار. وفي ضمن حديثه معه قال: وإنْ أبيتَ إلاّ محاربة هذا الجبّار…. واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فليُخرجوا أميرهم، فإنْ قَوَوْا على ذلك، ونفَوْه عنها، ولم يكُنْ بها أحدٌ يعاديك، أتيتَهم([11]).

وتُعدّ نصيحة ابن عبّاس هذه للإمام الحسين(عليه السلام) شاهداً على رؤيته الخاصّة لهدفه(عليه السلام). والظاهر أنّه كان يعتقد، كالفرزدق، بأنّ الهدف والغاية من هجرة الإمام هي إقامة الحكومة. فقد كان يطلب من الإمام عدم الوثوق بأهل الكوفة، وعدم القدوم إليها، إلاّ بعد إخراجهم لوالي المدينة ومندوب يزيد عليها. وإخراج والي الكوفة ـ الذي يُعدّ مظهراً للسلطة السياسيّة آنذاك ـ لا معنى له إلاّ إقامة الحكومة، وتحدّي السلطة الفعليّة.

الثقافة الحاكمة على الأجواء المحيطة بالذين دعَوْا الإمام(عليه السلام)

رسالة الكوفيين إلى الإمام الحسين هي علامةٌ أخرى تُشير إلى طبيعة الظروف التي انبثقت منها نهضة الإمام، وإلى كيفيّة نظرتهم إلى ميول الإمام الحسين وتطلّعاته ومواقفه. فقد ورد في بعض هذه الرسائل ما مضمونه: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْنَا إِمَامٌ، فَأَقْبِلْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْمَعَنَا بِكَ عَلَى الْحَقِّ. والنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فِي قَصْرِ الإِمَارَةِ لَسْنَا نجَتمعُ مَعَهُ فِي جُمُعَةٍ، ولا نَخْرُجُ مَعَهُ إِلَى عِيدٍ. ولَوْ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ أَقْبَلْتَ إِلَيْنَا أَخْرَجْنَاهُ حَتَّى نُلْحِقَهُ بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللهُ([12]).

ونطالع كذلك في نفس هذه الرسائل: إنَّ لك ها هنا مائة ألف سيف([13]).

يتبع...

*الشيخ أحمد مبلّغي

---------------------

([1]) الطوسي، تلخيص الشافي 4: 182.

([2]) المصدر السابق.

([3]) الصالحي النجف آبادي، شهيد جاويد (الشهيد الخالد): 11.

([4]) المصدر السابق: 246 ـ 340.

([5]) الخميني، صحيفة النور 1: 174.

([6]) المفيد، الإرشاد 2: 39؛ ابن الأعثم، الفتوح 5: 30.

([7]) تاريخ الطبري 4: 257.

([8]) المصدر السابق: 286.

([9]) المصدر السابق: 257.

([10]) مجموعة من المؤلِّفين، موسوعة كلمات الإمام الحسين: 448.

([11]) المسعودي، مروج الذهب 3: 54.

([12]) الإرشاد 2: 36.

([13]) المصدر السابق 2: 38