كان الإمام الحسين(ع) يعيش الرّسالة كإمامٍ لها وكمسلمٍ أيضاً، ويعتبر أنّ الرّسالة تمثّل رضا الله سبحانه وتعالى، وأنَّ رضا الله فوق كلّ شيء، لذلك كان يعيش أزمةً نفسيّةً ليست شخصيّة، بل رساليّة، ولذا عبّر عنها بقوله: "ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادةً، والحياة مع الظّالمين إلا برماً"[1]. فهو لا يريد أن يعبِّر عن حالة يأس، ولكنَّه يريد أن يعبِّر عن حالة رفض، وأنَّ الموت في خطِّ الجهاد يعتبر سعادةً، لأنَّ الإنسان يؤكِّد رسالته ويؤكِّد انتماءه وموقفه وعبوديَّته لربِّه، أمَّا الحياة مع الظَّالمين دون أن يواجههم، ودون أن يقوم بأيّ عمل، فإنّها تمثّل الحياة الّتي يبرم بها الإنسان، بمعنى أنّه لا يشعر فيها بالحيويّة ولا بالحياة. لذلك، كان الإمام الحسين(ع) يركّز على هذا الجوّ، من خلال تصوير المسألة في جانبها النّفسيّ، إضافةً إلى الجانب الموضوعيّ: "ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، ثم يقول: "ليرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادةً، والحياة مع الظّالمين إلا برماً".
الرّسالة هي المنطلق والأساس
وهكذا نجد أنّ الحسين(ع) وهو يتحرَّك، كان يريد أن يعمّق الرّسالة في نفوس كلّ الّذين ينطلق معهم، فعندما كان يقف مع معسكر ابن سعد، كان يعظهم بين وقتٍ وآخر، وكان يحاول أن يضعهم في أجواءٍ روحانيّةٍ وعظيّةٍ تنقلهم إلى الآخرة، وتجعلهم في مواجهة حقارة الدّنيا، ففي غداة يوم عاشوراء، خاطبهم بقوله: "عباد الله، اتّقوا الله، وكونوا من الدّنيا على حذر، فإنّ الدّنيا لو بقيت لأحدٍ أو بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحقّ بالبقاء، وأولى بالرّضا، وأرضى بالبقاء، غير أنّ الله خلق الدّنيا للبلاء، وخلق أهلها للفناء، فجديدها بالٍ، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهرّ، والمنزل بلغة، والدّار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى، فاتّقوا الله لعلّكم تفلحون"[2].
فلو كانت المسألة عند الحسين(ع) مجرَّد مسألةٍ سياسيَّة، لكان تحدَّث معهم بلغةٍ سياسيّة، في حين نراه يتحدَّث معهم بلغةٍ قرآنيّةٍ وبلغةٍ وعظيّة، لأنّ الحسين(ع) كان يعرف أنّ مشكلة المجتمع الإسلاميّ آنذاك، كما هي مشكلة المجتمع الإسلاميّ في كثيرٍ من المراحل، هي أنّ النّاس قد أغلقوا قلوبهم عن الله سبحانه وتعالى، وأنّهم لا يفكّرون في الآخرة، وإنَّما يستغرقون في الدّنيا. ولذلك، عندما ندرس الكثير من كلمات الإمام الحسين(ع) في مسيرته من المدينة إلى مكَّة، ومن مكَّة إلى كربلاء، نرى أنَّ كلَّ أحاديثه كانت وعظيَّةً تفتح القلب وتفتح الرّوح، لأنّه كان يريد أن ينتج مجتمعاً إسلاميّاً. صحيح أنَّ الحسين(ع) كان يطلب أن يكون هو الّذي يحكم، لكنَّه لم يكن ليطلب الحكم لذاته، بل لرسالته، ليغيِّر الواقع من خلال تجربة الحكم.
عاشوراء: ساحة لترسيخ الإسلام
ولذلك، لا بدّ لنا ـ أيّها الأحبّة ـ من أن نقرأ الحسين(ع) رسالةً شاملة، فلا تقرأوه في السياسة وحدها، ولا تقرأوه في المأساة وحدها، ولا تقرأوه في الكثير مما يتعارفه النَّاس، بل اقرأوا الحسين(ع) كما تقرأون رسول الله(ص)، مع الفارق طبعاً، لأنَّ رسول الله(ص) قال: "حسين منّي وأنا من حسين"، فهذا الاندماج بين الرّسول(ص) والحسين(ع)، لم يكن اندماجاً نَسَبيّاً، بل كان اندماجاً رساليّاً، لأنّ الحسين(ع) قد تحوّل إلى تجسيدٍ لرسالة رسول الله(ص)، ورسول الله هو التّجسيد الحيّ للرّسالة. لذلك، فإنّ هناك رسالةً اندمجت في رسالة، فالحسين(ع) منه، باعتباره انطلق من رسالة رسول الله(ص) في وجوده الرّساليّ، "وأنا من حسين"، لأنّ رسول الله(ص) انطلق من الرّسالة الّتي تجسّدت بالحسين في مرحلته، وهكذا يجب أن نفهم المسألة.
وعلى ضوء هذا، لا بدّ لنا من أن نجعل من عاشوراء ساحةً لتعميق الرّسالة وترسيخ الإسلام، ليكون النّاس مسلمين أكثر، وليكونوا ملتزمين أكثر، وليكونوا حاملين لرسالة الحسين أكثر، فلو استنطق الحسين(ع): كيف تريد أن تكون المجالس الّتي تتحرّك في ذكراك، لقال(ع): تحدّثوا عن الإسلام في الخطّ الفكريّ والشّرعيّ والحركيّ بنسبة 90%، وتحدّثوا عن المأساة بنسبة 10%، لأنّ قصّة المأساة تنطلق من العاطفة، فالمأساة لا تحتاج إلى كثيرٍ من الجهد لينفعل بها الإنسان الّذي يملك حسّاً إنسانيّاً، ولعلّ أحسن من عبّر عن ذلك هو ذاك الشّاعر الّذي يقول:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ لكنّما عيني لأجلك باكيـة
مناسبة جامعة
إنّ الإنسان عندما يقف أمام المأساة، لا يملك إلا أن تنفجر دموعه ويحترق قلبه من خلال العناصر الحزينة، لذلك نريد لعاشوراء أن تبقى إسلاميّةً بكلّ رحابة الإسلام، وبكلّ حركيّة الإسلام، وبكلّ عمق الإسلام، وبكلّ وحدة الإسلام، لأنّ قضيّة الوحدة الإسلاميّة، هي أن نتّحد بالإسلام حتى لو اختلفنا في فهمه هنا وهناك، لأنّ الله تعالى قال لنا: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[3]. ولذلك، حذارِ من أن نصوّر عاشوراء على أنّها موجّهة إلى فريقٍ معيّنٍ من المسلمين، لأنّ يزيد لا يمثّل المسلمين السنّة، بل إنّهم يرجمونه بكلّ الكلمات في وحشيّته، لذلك لا يجوز أن نجعل من عاشوراء ساحةً للإساءة إلى الوحدة الإسلاميّة، بل علينا أن نحمل عناوين عاشوراء وشعارات عاشوراء للمسلمين جميعاً، وأعتقد أنّ المسلمين جميعاً يلتقون عند الحسين(ع)، لأنّ "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة" عند كلّ المسلمين، ومحبّة الحسين موجودة عند المسلمين جميعاً، وإن اختلفوا في خصوصيّة محبّةٍ هنا عن خصوصيّة محبّةٍ هناك.
أعتقد أنَّنا نستطيع أن نقدِّم الحسين(ع) رمزاً للوحدة الإسلاميَّة، لأنَّ المسلمين أجمعهم يلتقون عليه، ولذلك أحبّ أن أنبّه إلى تعبيرٍ ينطلق في أدبيَّاتنا، وهو تعبير "يا لثارات الحسين"، بأنّ علينا أن لا نجعل هذا التّعبير يتحرّك في المستوى الشّعبيّ السّاذج، ليتصوّر البعض أنّ هناك عدداً من المسلمين يتحرّكون للأخذ بثأر الحسين من ظالمٍ قتله، ولكن نحن نعمل لثارات الحسين من كلّ مستكبرٍ، ومن كلّ طاغية، ومن كلّ منحرف، ومن كلّ سلطان جائر يستحلّ حرم الله، وينكث بعهده، ويخالف سنّة رسول الله(ص)، ويعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فهؤلاء هم الّذين نثأر للحسين منهم، لأنّ الحسين انطلق من خلال قضيّة تنطبق على الشّخص الّذي عاصره وعلى أمثاله، سواء كانوا من المسلمين أو من الكافرين، وحتّى قولنا: "السّلام عليك يا ثار الله وابن ثاره"، فإنّ ثأر الله إنّما هو من خلال أنّ الله سبحانه وتعالى يثأر لدينه، ويثأر لرسالاته، ويثأر لكلّ أنبيائه وأوليائه، ولذلك فإنّ الثّأر هنا لا يتّصل بحالةٍ خاصّةٍ، وإنّما يتّصل بالخطّ العام في كلّ مواقع الحياة.
وعلينا أن نبقي الحسين(ع) في عقولنا في الدّائرة الإسلاميّة الواسعة، وإذا كانت الدّائرة الإسلاميّة الواسعة تنفتح على الدّائرة الإنسانيّة الواسعة، فلأنّ الإسلام منفتح على الإنسانيّة كلّها، وعند ذلك، فإنّ الحسين(ع) لا يعيش في الجوّ الشّيعيّ فقط، ولكنّه ينفتح على الجوّ الإسلاميّ كلّه، وعلى الجوّ الإنسانيّ كلّه.
الوصيّة الأخيرة
وفي الختام، أحبُّ أن أقرأ عليكم وصيَّة الإمام الحسين(ع) الأخيرة لولده الإمام زين العابدين(ع)، لتعرفوا كيف كان الحسين(ع) يفكِّر، فهو لم يفكِّر في غربته أو في مأساته، وحتَّى في كلِّ الفجائع الّتي كانت تحيط به، بل كان يفكّر في الحقّ. وهناك روايتان عن الإمام محمّد الباقر(ع)، قال أبو جعفر(ع): "لما حضرت[4] أبي عليّ بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره وقال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به: يا بنيّ، اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً"[5].
وقد أوصى الحسين(ع) قبل أن ينطلق للقتال، ولده عليّ بن الحسين(ع) بوصيّة، فكان الحقّ أمامه، وكان يريد لمسيرة الحقّ أن تتحرَّك، وعلى الّذين يلتزمون الحقّ أن يتحمّلوا كلّ مراراته، لأنّه حلو في عمقه، وإن كان مرّاً في طعمه، وهذه هي الوصيّة الأولى.
وعن أبي حمزة الثّمالي عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "لما حضرت عليّ بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره ثم قال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به: يا بنيّ، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله". فالخطورة كلّ الخطورة، أن تظلم الإنسان الضّعيف، أن تظلم زوجتك وهي لا تجد عليك ناصراً إلا الله، وأن تظلم جارك وأنت تملك القوَّة وهو لا يجد عليك ناصراً إلا الله، وأن تظلم كلّ النّاس الّذين يتعاملون معك وهم ضعفاء، فتنكر عليهم حقوقهم فتظلمهم.
هذه هي وصيّة الحسين(ع)، وهو يخاطب كلّ واحدٍ منَّا في كلماته القصار: "اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحقّ، واصبر عمّا تحبّ فيما يدعوك إليه الهوى"[6]، وقال لبعضهم، وقد طلب من الحسين(ع) موعظةً مختصرةً، قال: "عظني بحرفين"، فكتب إليه الحسين(ع): "من حاول أمراً بمعصية الله، كان أفوت لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر"[7]، فإذا أردت أن تصل إلى أهدافك لتحقّق أمانيك، فلا تصل إليها بواسطة معصية الله تعالى، بل أن تصل إلى أهدافك بطاعة الله، لأنَّك إذا حاولت أمراً بمعصية الله، فإنّ الله يعاقبك على ذلك، بأن يفوّت عليك ما ترجوه، ويسرع إليك ما تحذره.
خذوا الحسين(ع) في عقولكم فكراً يضيء الحقّ للنّاس، وخذوا الحسين في قلوبكم حبّاً يطرد الحقد عن النّاس، وخذوا الحسين في حياتكم حركةً تبقى مع الله وفي خطّ الله، وعندما تحبّون الحسين حبّ الحقّ وحبّ الإسلام وحبّ العدل وحبّ الرّسالة، فستنفجر الدّموع من دون أيّة إثاراتٍ هنا وهناك، لأنّنا عندما نحبّ الحسين(ع) بعمقٍ، فسنبكيه بعمق، نبكيه بدموع الرّسالة، وبدموع القضيّة، وبدموع الولاء، وبدموع الحبّ.
*السيد محمد حسين فضل الله// 23 صفر 1435هـ
[1] ـ بحار الأنوار، ج44، ص381.
[2] ـ حياة الإمام الحسين(ع)، ص162.
[3] ـ[النّساء:59].
[4] ـ الكافي، ج2، ص332.
[5] ـ الكافي، ج2، ص91.
[6] ـ الأنوار البهيّة، ص 265.
[7] ـ الكافي، ج2، ص373.