من نافذة عاشوراء.. الإمام موسى الصدر

الأحد 24 سبتمبر 2017 - 05:34 بتوقيت غرينتش
من نافذة عاشوراء.. الإمام موسى الصدر

النهضة الحسينية - تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام السيد موسى الصدر للأبحاث والدراسات.

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين وعلى الأرواح التي حلت بفنائك. عليك منا سلام الله أبدًا ما بقينا وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منا لزيارتك. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أبناء الحسين وعلى أصحاب الحسين.

وبعد، في هذا اليوم وفي هذا المكان، نجد أمامنا نافذتين إلى تلك الواقعة، واقعة كربلاء. الزمان يوم عاشوراء. والمكان الحسينية. نعيش يومًا مع الحسين، مع ذكرى الحسين، ونستمع إلى ما عاناه الحسين في سبيل الله. نستمع إلى معاناته، ومعاناة أصحابه ومعاناة أهل بيته، في سبيل الحق، في سبيل دفع الظلم. في سبيل صيانة كرامة الإنسان… في سبيل مؤاساة المظلوم. نعيش زمانًا ومكانًا يأخذاننا إلى تلك الواقعة.

هذا اليوم، يوم موروث نحتفل به، كما سمعنا، منذ أوائل أيامنا. فقد سمعتم أن الإمام الصادق (ع) والإمام علي ابن الحسين زين العابدين (ع) ثم مَنْ بعدهما من الأئمة ومن قادة هذه الأمة، كانوا يحتفلون بهذا اليوم، يتوارثونه، ويورثونه… يعظمونه ويحفظونه، يدًا بيد إلى أن وصل إلى أيدينا.

بعض آبائنا… يتذكرون أنهم كانوا يحتفلون بذكرى عاشوراء في السر، وأنهم كانوا يراقبون ويحافظون عليها أمام الظلم العثماني المسيطر. فيحتفلون في الليالي، وفي الأحياء. ويجعلون عيونًا ومراقبين على مداخل البيت، حتى إذا جاءت زبانية بني عثمان يفرقون الاجتماع، ويتسترون بلقاء عادي، حرصًا منهم على بقاء هذه الذكرى بين أيديهم. جزاهم الله عن الدين وعنا خيرًا.

ولكن، لماذا كانوا يحتفلون بهذه الذكرى؟ ولماذا كانوا يحرصون على إبقائها حية، نضرة معطاء إلى أن تصل إلى أيدينا؟ هل لأننا نبكي فحسب؟ كلا، إن البكاء سبب آخر من أسباب بقاء هذه الذكرى وإعطائها رونقًا وعاطفة وأثرًا عميقًا في القلب.

في تاريخنا لم نحتفل بهذه الذكرى بحق، كما نحتفل بها هذه السنة بالذات، وفي لبنان بالذات. في هذه السنة نتمكن أن نعرف لماذا احتفل أجدادنا بهذا اليوم؟

ولماذا دافعوا عن وجوده وحافظوا عليه وماتوا لأجله؟

هل لأجل إكرام الشهيد؟ والشهداء مكرمون من الله.

أم لأجل التعصب وخلق الفتنة والفرقة؟ كلا، إنها بعيدة عن أئمتنا، وهم الطليعة المناضلة لصيانة هذه الأمة. بل لأنهم يريدون أن يضعوا أمام أبنائهم، أمامنا بالذات وفي لبنان بالذات، إن طريق الحق ليس مفروشًا بالحرير، وأنه مليء بالأشواك، وأن فيه القتل والشهادة والتعذيب والتشنيع والأسر والتجويع والعطش وكل شيء.

لقد سمعتم نبذة مما عاناه الحسين، سيد الشهداء، ابن بنت رسول الله، وما أغناه عما عاناه. كان يتمكن أن يجلس في بيته معززًا مكرمًا، وكان يتمكن أن يؤمَّن له ما يشاء من متع الحياة؛ ولكنه أبى ولخص كل ثورته ضمن كلمتين فقط: ألا ترون أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًا.

الحق عندما لا يعمل به، والباطل عندما يُرتكب بين الناس، ولا يتناهى عنه، يجب أن يرغب المؤمن في لقاء الله، لا أن ينتحر، ولكنه يدافع عن الحق.

ولو عانى ما يعانيه أبناؤنا اليوم، ولو عانى ما يعانيه أبناء الشياح، وأبناء الكرك، وأبناء حارة الغوارنة، ولو عانى ما يعانيه أبناؤنا في هذه المنطقة من القذائف التي تُقذف على رؤوسهم، من الأموال التي جبيت وجمعت، من أموالنا ومن ضرائبنا ومن دخلنا ومن حياتنا؛ جمعت هذه الأموال حتى تسلم للأيادي المجرمة. ففي الليالي العصيبة السوداء، عندما يحتاج الوطن ويحتاج شعبه، ويحتاج أهله إلى أمان، تُستعمل هذه القذائف ضدنا وضد الأحياء والناس الأبرياء المدنيين دون دفاع.

هذا هو طريق الحسين وعندما نحتفل بعاشوراء نريد أن نقول لهم من فوق، إلى سكان القصور، إلى الناس الذين يخططون ويتآمرون في المكاتب، نقول لهم شاهدوا تراثنا وذكرانا. نحن حياتنا وتاريخنا مهيآن لتحمل مثل هذه الأعباء. لسنا غرباء عما تعذبوننا وتعذبون أبناءنا به. إذا قتلتم الآمنين المدنيين، إذا عذبتم النساء، إذا شنعتم مع المخطوفين، إذا قطعتم أيادي الأسرى خلافًا لجميع التقاليد الإنسانية في العالم، إذا قصفتم الأحياء المدنية، فلا غريب عن تراثنا وعن تاريخنا. نحن عانينا مثل هذا وأكثر قبل 1300 سنة، من قبل سيد شباب أهل الجنة. عانينا مثل هذه المصائب وسنعانيها ونستمر في الطريق.

لا نركع، ولا نخضع، ولا نقبل بالظلم والطغيان، ولا نستسلم ولا نترك ما نؤمن به. نحن نؤمن بلبنان وحدةً وإنسانًا وبلدًا يدافع عن الحق، ويتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات. نرفض الامتيازات والتسلط.

نحن في هذا البلد نؤمن بضرورة الدفاع أمام إسرائيل، لأجل الوطن ولأجل الجنوب ولا نقبل أن يُتآمر عليه. ونحن نؤمن في هذا الوطن بأن المقاومة الفلسطينية تمثل حقًا مقدسًا لا نتنازل عنها، ولو عذبتمونا، ولو هلكتمونا.

ولا يدخل في عقلنا قولكم إنهم سُنة ونحن شيعة، فالشيعة يعني هم الذين يموتون لأجل السُنة، ولأجل الإسلام ولأجل القضايا الإسلامية. فما وقف يومًا الحسين أو الصادق يقول: أنا أريد أن أدافع عن جماعتي… إنهم دافعوا عن الأمة، عن المسلمين، عن الحق أينما كان.

فالقضية الفلسطينية قضية عادلة، حقة، وإسرائيل ليست خطرًا على فلسطين فقط، بل إنها خطر على لبنان وعلى كل إنسان… إنها شر مطلق، ولذلك فمن يقف ضدها فهو خير مطلق.

نحن ندافع عنهم ولا نريد إطلاقًا منهم شيئًا إلا وقفتنا مع الحق، تلك الوقفة التي قالها الحسين قبل 1400 سنة: ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه.

أمام هذه القضايا، بناء وطن واحد عادل حق، الدفاع عن الوطن وصيانة المقاومة الفلسطينية، نقف ولا نتركهم، ولا نترك الوطن ولا نقبل بالتقسيم.

ماذا نعانيه؟ أتعذبوننا؟ فقد سبق لأجدادكم الشمر ويزيد وابن زياد أن عذبوا الحسين وأبناء الحسين من قبل. ليس جديدًا في تاريخنا أن عبدة الشيطان وأتباع الاستعمار يعذبون أبناء الحق والمستضعفين. ولكن نحن كنا نتحمل ونقرأ الآية الكريمة: ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ [القصص،5].

أجدادهم فرعون، يسميهم القرآن الكريم يا إخوان فرعون. ماذا يعني فرعون؟ يعني كل طاغية، كل ظالم: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا﴾ [لقصص، 4] كما جعلونا في هذا الوطن شيعًا وفرقًا: ﴿يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين﴾ [القصص، 4]. ثم يقول القرآن الكريم: ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾ [القصص، 5]. وقفتنا ضد الظلم ليست جديدة في التاريخ، ها نحن نحتفل بعاشوراء. وعاشوراء وإحياء عاشوراء وذكرى عاشوراء، ومجالس عاشوراء، ليست بنت البارحة.

منذ أن كنا وكان مذهبنا، كنا نحتفل بذكرى عاشوراء وكنا نقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، وكنا نقول: يا ليتنا كنا معك. ونعرف نحن ماذا عانى، وكل يوم نسمع الصعوبات التي عاناها الحسين، من مقتله ومقتل أبنائه ومقتل الطفل الصغير، والعطش، والأسر، وهجوم الخيل على المخيم، وقطع الرؤوس والتعذيب وسحق الخيل لأجسادهم الطاهرة.

هذه الأمور مطروحة في تاريخنا، هذا الألف والباء في تاريخ بناء مذهبنا. بماذا تعذبوننا أيها الظلمة؟ يا سكان القصور، أيها المجرمون، بماذا تعذبوننا؟

بإطلاق القذائف على الغبيري وحي الغوارنة وبرج البراجنة؟ هذا قديم في تاريخنا. صبرنا عليه كثيرًا، وتحملناه كثيرًا، ووقفنا معه كثيرًا، وما تراجعنا ولن نتراجع. وعندما تدق الساعة كلنا لسنا أشرف من الحسين، ولا أطول عمرًا من الحسين، ولا أكثر عزة من الحسين! سنقف، وننطلق، ونذهب، ونحمي وندافع عن أطفالنا وعن أهدافنا وعن حقوقنا بدون مبالاة.

كفى التشكيك والتفريق، كفى التصنيف والدجل، والإعلام المضلل. كفى! قضية حق.

ماذا عمل أبناء حارة الغوارنة حتى يستحقوا التشريد والأسر، ماذا عملوا؟ كان بينهم ناس يطلقون النار! كل الناس في كل العالم أطلقوا النار، ماذا عمل الشباب حتى وضعوا أياديهم على رؤوسهم؟ أبدًا! محاولة الإذلال والإرهاب وإثبات التفوق العنصري كاليهود. لكن ماذا جنى اليهود من اعتبارهم أنفسهم شعب الله المختار؟ ماذا جنوا من تاريخهم، اليهود؟ ماذا عملت إسرائيل في هذه المنطقة؟ ماذا ربحت من التفوق؟ غير التأزم الدائم والمحن الدائمة عليها وعلى الشعب اليهودي وعلى العرب كلهم؟ والآن نريد أن نشهد بأعيننا وجود إسرائيل جديدة، إسرائيل مسيحية في هذه المنطقة؟ كلا، لو بقيت قطرة من دمنا لن تكون إسرائيل ثانية في أرضنا، (واللي بدو يصير يصير). نرفض اعتبار أحد فوق أحد. كل الناس سواسية كأسنان المشط. لا نريد التفوق على أحد، ولا نقبل أحد أن يتفوق علينا. يؤسر منهم ثلاثة فيأسرون في الكحالة 130 أو 90 أو 30، كل واحد بعشرة؟ هذا العقل الصهيوني، هذا العقل النازي، هذا العقل الفاشستي، هذا العقل المتفوق الذي يصنف الناس. ناس أرفع من ناس، وناس أقل من ناسكلا، مرفوض هذا الشيء.

ماذا سيكون؟ أتعذبوننا؟ تاريخنا ذكرنا، عاشورانا تذكرنا، احترامنا للحسين يؤكد بأننا نحن على الدرب، ليس جديدًا. تقتلون ناسًا، تعذبون ناسًا، تخطفون ناسًا، تهدمون بيوت الآمنين، أهلًا وسهلًا! هذا ليس جديدًا في تاريخنا. الحسين قتل، ابنه الرضيع قتل، نساؤه أُسِرن، خيامه أحرقت. وإذا بيوتنا أحرقت، نحن لا نركع ولا نخضع. والحسين علمنا ذلك، وإحياؤنا لذكرى عاشوراء يعني ذلك.

يدنا ممدودة للتفاهم ولكن إذا أرادوا الحرب فليكن، نحن أيضًا على استعداد. الحسين لآخر لحظة كان يبشر وينصح ويطرح شعارات وبعدما بتوا بالأمر قال لهم: أنا حاضر ما عندي مانع. ونحن أيضا نكرّم الحسين. وشرفنا أن نكرم الحسين، وأن نسلك طريق الحسين. فإذا أرادوها حربًا، فنحن على استعداد؛ وإذا أرادوها سلامًا، فنحن على استعداد، لا نريد: ﴿علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين﴾ [القصص، 83]. هذا هو معنى ذكرى الحسين.

أيها الحسينيون، أيها المحتفلون بذكرى الحسين، الزمان: يوم عاشوراء، والمكان: الحسينية، نافذتان إلى ذكرى الحسين (ع) في هذه السنة لم يحتفل بلد في العالم، حتى كربلاء موضع استشهاد الحسين وقبر الحسين. في هذه السنة لا يحتفل، ولا يتمكن أن يحتفل كما يحتفل لبنان اليوم. احتفالنا ليس بالاجتماع، احتفالنا بهؤلاء الشهداء الذين يسقطون، يسقط الواحد تلو الآخر نصلي عليهم ونحتفل بهم ونكرمهم؛ ونقف ولا نرحل ولا نهرب ولا نترك نساءنا وأطفالنا، ولا نقول: (آخ) هذا هو احتفالنا بالحسين ونحن محتفلون.

إذًا، نحن في هذه السنة لنا الشرف في العالم، كل العالم، وفي التاريخ كل التاريخ، لأنه أول مرة في تاريخنا الحسيني نحتفل نحن بذكرى الحسين (ع) لا بلساننا، بل بعقولنا ونفوسنا وأيدينا وأموالنا وحياتنا. نحتفل، الوقت متى؟ الوقت؟ ليس نحن الذين نحدده، نحن نستعد. الوقت يحدده الظالم، لأنه إذا أراد السلم فأهلًا وإذا أراد الحرب فأهلًا. نحن لا نركع، لا نهرب. وليس عندنا وسائل، عندنا أيادينا، عندنا أحجارنا، عندنا بنادقنا الصغيرة، عندنا أطفالنا، عندنا أحياؤنا المتواضعة، وإن لم يكن التكافؤ والكفاءة بيننا وبينهم فليس أكثر من غياب التكافؤ بين الحسين وجماعة ابن سعد. كم كانت جماعة الحسين؟ إثنان وسبعون؟ […]

المصدر: شفقنا