ثم، متى كان الشهيد غائباً؟
ومن قال إن حضور المرء إنما يكون بجثمانه لا بالقيم التي يخلفها؟ لا، الشهيد حاضر وخالد.. لقد أعطانا الحسين درساً أكبر من دروس شهادته عندما ترك الحج المندوب وتوجه إلى الشهادة. لقد تخلّى عن هذه المناسك التي ناضل من أجلها جده وأبوه، فتركها وذهب إلى الشهادة التي فضّلها واختارها.
لقد حلّ نفسَه من إحرامها ونفض يديه من مناسك الحج ليعلن للحجاج والمصلين والطائفيين والمؤمنين بسنة إبراهيم: إن صلاتهم وطوافهم حول البيت دون قيادة وإمامة وهدف، وفي ظل يزيد بعيداً عن الحسين، ما هو إلا دوران وثنيّ جاهلي حول الكعبة والأصنام تملؤها!!
إن قوماً ممن تركهم الحسين في الكعبة، حين خرج إلى الشهادة، منهمكين في طوافهم حولها، هؤلاء القوم كانوا في طوافهم هذا لا فرق بينهم وبين أولئك الذين كانوا يطوفون حول "القبة الخضراء" لقصر يزيد في دمشق!!
لأن الشهيد يحضر حيث الحضور واجب وأكيد ولازم. الشهيد حاضر في جميع ساحات الحق، وهو شاهد على نضال العدل ضد الظلم والجور، حاضر ويريد حضوره هذا أن يؤدي رسالته للإنسانية كلها، حتى إذا طلبته وجدته على جميع الساحات، بل وفي الساحة التي طلبته فيها!
ذلك أن "الشهادة" هي أولاً وأخيراً "حضور" دائم في ساحة المعركة التاريخية الناشبة بين الحق والباطل!