للعلم.. شهر محرّم الحرام ليس هو أوّلَ يومٍ من التاريخ الهجريّ، بل المقطوع به أنّ هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله بدأت من غُرّة ربيع الأوّل، ودخل إلى (قبا) يوم الثاني عشر من الشهر نفسه. ثمّ أخذ المسلمون فيما بعد بتآريخ أخرى، مع أنّ المرويّ هو الابتداء بتاريخ الهجرة النبويّة المباركة، أمّا التاريخ المأخوذ به اليوم فابتداؤه من شهر محرّم الحرام باعتباره ابتداءَ رأس السنة العربيّة، فيما تعمل بعض الشعوب بالتاريخ الشمسيّ المرتبط بالفصول، وغيرها بالتاريخ الميلاديّ المبتدئ بيوم مولد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وأمّا التاريخ العباديّ فيتثبّت عند العلماء - حسب الروايات الشريفة - في اليوم الأوّل من شهر رمضان المبارك.
وهذا اليوم هو أوّل أيّام شهر الحزن والألم لآل محمّد صلّى الله عليه وآله، وهو يومٌ كئيب عند جميع الأنبياء والأولياء والملائكة، وجميع محبّي أهل البيت عليهم السلام، بل هو يوم حزن جميع العوالم، لماذا؟
قيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام: سيدي جُعِلتُ فداك، إنّ الميّت يجلسون له بالنياحة بعد موته أو قتله، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أوّل الشهر بالمأتم والعزاء على الحسين عليه السلام! فقال عليه السلام: «يا هذا، إذا هلّ هلال المحرّم نشرت الملائكة ثوب الحسين عليه السلام وهو مُخرَّقٌ مِن ضرب السيوف! ومُلطَّخ بالدماء! فنراه نحن وشيعتُنا بالبصيرة لا بالبصر، فتنفجر دموعُنا» (ثمرات الأعواد، للسيّد عليّ بن الحسين الهاشمي 1: 36 - 37).
وكتب المحدّث الشيخ عبّاس القمّيّ في (مفاتيح الجنان: 286 - 287): إعلم أنّ هذا الشهر هو شهرُ حزنِ أهلِ البيت عليهم السلام وشيعتهم، فعن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: «كان أبي (أي الإمام الكاظم) صلوات الله عليه إذا دخل شهرُ المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت كآبته تَغلِب عليه، حتّى يَمضيَ منه عشرةُ أيّام، فإذا كان اليومُ العاشر كان ذلك يومَ مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هذا اليومُ الذي قُتل فيه الحسين صلّى الله عليه!» (أمالي الصدوق: 111 / ح 2 - المجلس 27 - عنه: بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 44: 284 / ح 17).
وروى الريّان بن شبيب قائلاً: دخلتُ على الرضا عليه السلام في أوّلِ يومٍ من المحرّم فقال لي:
«.. يا ابنَ شَبيب، إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهليّة - فيما مضى - يحرّمون فيه الظُّلمَ والقتال لحُرمته، فما عَرَفَت هذه الأُمّة حرمة شهرها، ولا حرمةَ نبيّها! لقد قتلوا في هذا الشهر ذُرّيّتَه، وسَبَوا نساءه، وانتهبوا ثِقلَه، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً!
يا ابنَ شبيب، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ عليهما السلام...
يا ابنَ شبيب، إن سَرَّك أن تلقى اللهَ عزّ وجلّ ولا ذنبَ عليك فَزُرِ الحسين عليه السلام.
يا ابنَ شبيب، إن سَرّك أن تسكنَ الغُرف المبنيّة في الجنّة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله فالعَنْ قَتَلةَ الحسين...
يا ابنَ شبيب، إن سَرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجِنان فاحزَنْ لحزنِنا، وافرحْ لفرحنا، وعليك بولايتنا..» (عيون أخبار الرضا عليه السلام، للصدوق 1: 299 / ح 58).
• ورُوي أنّه اتّفق دخول الشاعر دعبل الخزاعيّ على الإمام الرضا عليه السلام في غرّة المحرّم، فطلب الإمام منه أن يقرأ عليه قصيدته، وكان دعبل قد نظمها وآلى على نفسه ألّا يقرأها إلّا عند الرضا سلام الله عليه، فاستجاب وبدأ:
ذكرتُ محلَّ الربعِ مِن عَرَفاتِ
فأسبلتُ دمعَ العين بالعَبَراتِ
وقلَّ عُرى صبري وهاجت صَبابتي
رسومُ ديارٍ أقفَرَت وَعِراتِ
مدارسُ آياتٍ خَلَت مِن تلاوةٍ
ومنزلُ وحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ
ديارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ
وحمزةَ والسجّادِ ذي الثَّفَناتِ...
أَفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مُجَدَّلاً
وقد مات عطشاناً بشطِّ فراتِ
إذاً لَلَطمتِ الخَدَّ فاطمُ عندَهُ
وأجريتِ دمعَ العينِ في الوَجَناتِ
أفاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ واندُبي
نجومَ سماواتٍ بأرضِ فلاةِ!...
وكان من الإمام الرضا عليه السلام بكاءٌ شديد وعبرات، وغصص وآهات (يراجع: بحار الأنوار 49: 237 وما بعدها).
• ومن ليلة هذا اليوم تبدأ المجالس الحسينيّة بالرثاء، ومن ليلة هذا اليوم تنفجر مشاعر الأسى والتفجّع بحكم الولاء لآل الله، وبحكم الوفاء لهم، وتُقام الشعائر التي يكون فيها إظهار المشاعر، وتُترجَم المحبّة هنا إلى حزنٍ عميق، وإثارةٍ لأسباب الشجى، فتُقرأ قصّة كربلاء، بل تُتلى فصول الطفّ فيكون التجاوب بالزفرات والدموع الساخنة.