لماذا باتت الثورة الحسينية ـ أيقونة ثورات الحرية والكرامة ـ أكثر خلودا وأسمى تعبيرا، بعد أن خرجت عن حدّ الواقع لترسم آفاق المتوقع في ضرب من التعبير يتواطأ فيه الوعي واللّاوعي.. المعقول واللاّمعقول.. المنقول واللاّمنقول؟!
تبلى الثورات وتفقد عمقها الأيديولوجي والروحي، وقد تتحوّل إلى إرهاب فتغدو الثورة مجرمة، بينما تستمر طراوة الثورة الحسينية توحي بالكثير من المعنى والقيم و والإنسانية والأمل والعدالة والسّلام ومناهضة الظّلم! إنّ أقوى وأكمل الأفكار الاجتماعية هي التي تتسع للمعقول واللاّمعقول، أي الحدث الذي يتمثله أطياف المجتمع بمختلف طبقاتهم الثقافية ونزعاتهم الفكرية.
إنّ الأفكار التي لا تبرح المعقول ولا تنشئ شكلا من الغواية مع اللاّمعقول فهي ليست أفكارا نافذة وقويّة وغنيّة. إنّنا لا نبحث عن المعقول في التعبير الاجتماعي عن القضيّة بل نبحث عن المعقول في أصل القضّيّة وجوهر رسالتها. فاللاّمعقول هو طريقة الشعوب في إنجاز ثوراتها والتعبير عن تجاربها وقناعتها. هذا اللاّمعقول هو بتعبير آخر ممارسة تستمدّ عنفوانها من “آخر _ العقل”، وهو يتنزّل منزلة العقل عند الجمهور. هو خروج من خشبية المعنى إلى خصوبته وشاعريته ولامعقوله.
لقد كانت ثورة كربلاء في أصلها التّاريخي تجري على أرض الواقع وتواجه منتهى التّعسف بقدر ما تتمثّل منتهى التّحرر. هي لوحة رومانسية على أرض الواقع التاريخي، تهاوت فيها هواجس الاستبداد إلى أسفل درك النزول وارتقت فيها مهج التّحرر إلى منتهى مدارج الكمال.
الجانب التربوي والروحي في هذه الثورة عانق كمال العقل ليهزم واقعا اشتدت وطأته وكاد يكرّس في النفوس نزعة العدمية والانكفاء واليأس من الإصلاح. لكلّ شيء كمال، لكنّ كمال الثورة ظهر بشكل كبير في عاشوراء. وبعد الحسين أمكننا أن نتعرّف على مغزى الثّوار الكمّل الذين لا يفقدون توازنهم الروحي والعقلي في زحمة الاصطفافات والتموقفات والمصالح.
لأوّل مرّة في تاريخ النوع وليس في تاريخ المسلمين، تقوم ثورة لأجل هدف غير السّلطة، بل لأجل حفظ الكرامة واسترجاع التحرّر وحماية مكتسبات الإنسان. ففي كل ثورات العالم يكون الهدف هو بلوغ السلطة أو تحقيق مصلحة يتفرّق عندها الثائرون ويحتفظون بالثورة كجزء من الذّاكرة التّاريخية للمجتمع. غير أن ثورة الحسين هي نزعة أكثر مما هي ثورة. نزعة دائمة لها صلة بالشعور الإنساني وطبائع النّوع. فهي لن تكون محض ذاكرة بل هي إحساس دائم ووجدان معيش.
فالحسين بات عنوانا لهذا الإحساس عند محبّيه، إحساس لا تقدحه الذّاكرة بل يستدعيه المستقبل. إنّ قضية الحسين لا زمان لها لأنها تعبير عن هذا الإحساس وتأكيد لنزعة التّحرر ولا أرض لها لأنّ جغرافيتها ممتدّة في تربة الكرامة حيث يبلغ مدى الإنسان، أو كما في عبارة السّيدة زينب أمام يزيد: ” لن تبلغ أمدنا”! من هنا ليس حقّ أن يقال كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء فحسب، بل لن توجد أرض لن تكون كربلاء ولا يوجد يوم لن يكون عاشوراء.
إنّ الزّمكان هنا يحمل دلالة ومغزى جغرافيا وتاريخا التحرر والظّلم. فكل شيء متعدّي في الحدث العاشورائي: الظلم والتّحرر. وبقدر ما يتعدّى يزيد في جغرافيا الظلم وزمانه يتعدّى الحسين في جغرافيا التّحرر وزمانه. إنّ تاريخ عاشوراء لا يقرأ في سفر ولا يحفظ في ذاكرة فحسب بل هو وجدان وشعور متدفّق ونزعة تسكن مشاعر الإنسان من حيث هو إنسان. فحتّى إن جهل المرء من يكون حسينا، فسيقرأ سيرته عند كلّ موقف إنساني وثورة ضدّ الظلم وإحساس عارم للحرّية والكرامة.
الحسين بين التورخة والأسطرة:
ما أن حكا عابر سبيل استشراقي عن مظاهر جلد الذّات في مناسبة كربلاء حتى أهرق مداد ببغائي يقلّد الفكر ويتمثل الكلام ، فقير في تأويله خفيف في مقاربته كيديّ في أعماقه، لم يرق إلى رمزية الحدث لفهم حجم ما أهرق من دماء ، دفاعا عن الكرامة في ذلك اليوم وتلك الأرض المشؤومة. يمارس هؤلاء قراءة باردة ماكرة وغير إنسانية، لحدث يملأ الوجدان بالمعنى ويفرض عليه سلوكا قد يتجاوز حدود المدرك في وقائع النّاس الجارية. فقياس الحدث العاشورائي بمجرى الحياة العادية مغالطة وبؤس قرائي لا يمكن أن ينتج إلاّ عن مقاربة خارجانية أو مقاربة خصيمة غير معنية بالمغزى العميق للحدث.
فالحالة البكائية المنتشرة والتعبيرات التي تبلغ حدّ تجاوز المدى هي التعبير الشعبي الممكن دائما عن فاحش الظّلم. إن جلد الذّات يرمز إلى حقيقة عدم تساوي مغزى الثورة الحسينية مع درجة الوفاء الشعبي للقيم حينئذ. كان الحسين متقدّما هو ومجموعته المنتخبة على المجتمع، لذا طالب كلّ من معه إلى ركوب متن الليل والعودة إلى الدّيار لأن الحسين كان مصمّما على منح المغزى العميق لكرامة القائد الملهم للأجيال جميعا. فحينما لا يكون المجتمع على موعد دقيق مع التّاريخ فليس أمامه سوى الاستدراك بالفعل الاجتماعي والتعبير الرّمزي ، لأنّ ما لم يتمّ تاريخيا لا يجد لغته إلاّ في الرمزي الاجتماعي : هنا الاجتماعي يعوّض التّاريخي، ولكنه لا يلغيه، بقدر ما يملأ الفراغ في انتظار الحدث التّاريخي الأعظم.
لقد تداركت الشعوب ما فاتها من هذا المعنى وأحسّت إحساسا عارما بتأنيب الضّمير وبرزت في التّاريخ أولى أشكال هذا الشعور من خلال حركة سليمان بن صرد الخزاعي في ثورة التّوابين، وحركة المختار الثّقفي ذلك القائد الممتلئ حبّا وولاء وغيرة. وبدا كلّ على شاكلته يعبّر بالصورة القادرة على نقل هذه الأحاسيس. إنّ حرارة الحدث وخطورته تجعل هذه التعبيرات قابلة للفهم والتّفهم بخلاف سائر الطقوس التي يصعب إيجاد مبرّر حقيقي لتعبيراتها في مجتمعات شتّى.
وقد كان من قبيل الجهل أنّ نخطئ فهم الرسالة التعبيرية لجلد الذّات، التي لا تعني أكثر من إحساس مضاعف بالذّنب يعكس مكانة الشّخص في الوجدان وقسوة الجريمة في التّاريخ. هنا تختلط حقائق الدّين بحقائق التّاريخ لتنتج موقفا إنسانيا مكثّفا. إنّ جلد الذّات تعبير شعبي له مظهر لا معقول عن دلالة معقولة تجعل من غير المعقول أن لا يسفر حدث الجريمة العظمى عن شعور بالذّنب. إننا لا نعاتب من يبكي الأحبة ولو طال به العمر ولو كان نبيّا مثلما فعل يعقوب بابنه يوسف.
فالبكاء حالة إنسانية رفيعة. وهي مهما طالت لا تزعج إلاّ من يريد أن ينسى حسينا. ففي عالم مفعم بالدّموع مزدحم بالآهات، مهما كبر موضوعها أو صغر، لا يزعجهم منه إلاّ دموع أذرفت على الحسين وآهات صدرت من أعماق محبّيه!؟ وهي حالة عاطفية تنتفي معها حالة التّكلّف والنّفاق. لذا كانت سلاحا عند المرأة والطفل. إنّ محبّي الحسين يتفاعلون مع المصيبة بأحاسيس الطفولة والمرأة وهي أبلغ وأصدق أحاسيس إنسانية ترقّ وتضعف عند الرّجل. ورقّتها عند الرّجل في مثل هذه الحالات ، هي من ضعفه لا من كماله. يسعى أنصار الحسين إلى أن يبكوا حسينا بكاء زينب وسكينة. ويعاقروا بعض الجنون إذ لا حدود لما يمكن أن تمتدّ إليه هذه الشّعائر إذا ما بقيت بين يدي جمهور متعاطف بأقصى حدود المعقول واللاّمعقول، ولم يحضر فقه يراقب تطوّر هذه التعبيرات وإن كان لا حدود للأحاسيس التي تستدعيها.
فالحديث عن طقوس عاشوراء هو في حدود وحجم ومذاق التعبير لا في محتواه وفلسفته. ليست القضية الحسينية قضية خرافية كما يقول خصومها والمستهينين بمفاعيلها التّاريخية والمستقبلية. ذلك لأنّ لها أصلا فاضحا في التّاريخ لا تعارضه الوثيقة، كما لها أصل في الوجدان الإنساني من حيث هي ثورة تحرّر وكرامة. وأيّ حدث له أصل تاريخي وإنساني لا يمكن أن ينعت بالخرافي إلاّ إذا كان الفكر الذي يروّج لهذه الأطروحة العدمية المستهينة بالحدث الحسيني يعاني من مشكلتين: أزمة خطاب تاريخي من جهة وأزمة خطاب إنساني من جهة أخرى. وقد سبق وأكدنا في مناسبات أخرى أن أزمة الخطاب التّاريخي تثير قضية حقوق الإنسان بشكل ممنهج.
فهي إذ تهوّن من حدث بالغ التّعسف تكون في وارد مضاعفة ظلم المظلومين، ومن جهة أخرى تكون بتهوينها من الحدث ساهمت في تشويه الصورة التي يجب أن تحضر فيها المأساة بشحنتها الحقيقية ، أي حرمان الأجيال من جزء من ذاكرتهم التّاريخية؛ هو ظلم تاريخي وظلم تأريخي وظلم تاريخاني بالمعايير المفهومية للعبارة. وعليه، فإن الأسطرة بمعناها الحديث ليست هي الأسطرة بمعناها المتداول في الخطاب العام. ففي الاصطلاح العام تعني الأسطورة الخرافة مع أنهما لا يرتبطان برباط ترادف حقيقي. فالخرافة شيء لم يقع وليس له أثر واقعي لا في الماضي ولا في الحاضر، بينما الأسطورة لها أصل في الواقع وأثر جاري في الذّهن. الخرافة يأباها العقل قبل الواقع بينما الأسطورة يستوعبها الخيال والذهن ويستدعيها الواقع أيضا. في مثال عاشوراء نتحدّث عن أساطير اكتنفت بعض الروايات مما أفاض المختصّون فيها من محبّي الحسين قبل غيرهم.
وليس هذا ما يعنينا هنا لأنّ البحث المخصّص لذلك هو البحث الرّوائي. لكن المقاربة الأسطورية بالمعنى الحديث والفلسفي للعبارة هنا تجعلنا قادرين على التّأسيس لمعنى أعمق مما يشغل بال الباحث الرّوائي نفسه. فهذا الأخير يسعى للتحقيق في أصل الخبر الذي ينقل تفاصيل الحدث ومطابقته مع الواقع بينما الأسطورة تتعلّق بنقل الحدث الواقعي إلى عالم الخيال لإعادة إنتاجه قصد تأبيده. ويحدث أنّ التّاريخ أو بالأحرى الخطاب التّاريخي لا يكون وفيّا للحدث ويسمح بتحريفه فتتدخّل الأسطورة لحفظه في المخيال بدل الوثيقة. يتعلّق سؤالنا نحن هنا بمغزى الخبر نفسه حينما لا يثبت. أي لماذا تم الإخبار بهذه الصورة وما الثقافة التي يحملها هذا الخبر وما الرسالة التي يبغي نقلها إلى متلقي معاصر للخبر؟
نتساءل: لماذا أورد البعض أخبارا زائدة عن الحدث؟
وهل ما كان مرويا كان غير كافي؟
ولماذا لم يروا مثل ذلك في أناس آخرين؟
تضعنا الأجوبة الممكنة عن هذه التّساؤلات أمام آماد أخرى من التّحقيق بعيدا عن البحث الروائي على أهميته المذكورة. نستطيع أن نتساءل كثيرا حول الأسباب التي دعت إلى خلق أخبار غير صحيحة عن الحدث، ونستطيع أن نهتدي إلى صور عديدة تجعلنا ننقل الإشكال إلى ما وراء رواية الخبر. هناك من نقلت له المأساة كنتيجة دون تفاصيلها، فحاول تحت وطأة الحدث أن يتحدّث عن المتوقع من جرم قاتلي الحسين؛ لا سيما ولهم أمثلة صحيحة عن جرأة هؤلاء وتصميمهم على تنفيذ الجريمة التّاريخية.
وهناك من تداخل عنده وصف الحادثة عند الشّعراء بلغة (كأنّي به) مع الواقع وهو ما لعبت فيه الخطابة دورا كبيرا. هناك العاطفة الجيّاشة التي تجعل محبّي الحسين لن يهتموا بتفاصيل الحدث ما دام أنّ نتيجة الحدث هي أخطر من كلّ التفاصيل الممكنة. إن ذلك راجع لشأنية الحسين ومقامه في الوجدان والاعتقاد. أي يمكنك أن تقول في قاتل الأنبياء والأولياء كلّ شيء ما دام تحقّق فيهم التّجرّي. أما من جهة عدم الاكتفاء بالأخبار الصحيحة، فإنّ لكل خبر مهما بلغ في عدم الصّحة، نظائر صحيحة تعكس المقدار نفسه من التّجري.
وحتّى من روى غير الصّحيح أو من تحدّث من الشعراء بلغة (كأنّي به) ارتكز على أصل صحيح من تاريخ الحادثة. إن ما في أيدينا من أخبار عن مقتل الحسين تكفي لتحقيق الصّورة نفسها التي تبكي الخيال. وإنّ هذا هو ردّ الفعل الطبيعي لأولئك الذين سعوا من ناحية أخرى لمحو الذّاكرة من هذه المأساة ومحاولة تبرير الجريمة. لكن المهم من خلال التساؤل الثالث: لم قيل في الحسين ما لم يقال في غيره؟ إنّ أسطرة الأشخاص ليس ضربا من تخريف مقامهم.
فلقد قلنا أن لا أصل واقعي للخرافي. بل أصل الأسطورة هم الأشخاص العظام والمعاني الفائقة. تتعالى الأسطورة بالشخوص التي رسمت لوحة مثالية على أرض الواقع لم تستطيع أن تحتويه فكر زمانها. فبقد ما يجاوز المعنى المدى ويتعالى على شروط الزمان والمكان حتى يكون موضوعا تتربّص به لغة الأسطورة وخطابها. وحتى لو حاولنا أن نؤسطر أشخاصا غير مناسبين فإنّ التّاريخ لن يسمح بمرور هذه الأسطورة بينما نجد في أمر الحسين كما كان من أمر علي بن أبي طالب أن التّاريخ يتواطأ مع الأسطورة في تمرير الشخص والعبور به إلى عمق الوجدان. إن الأسطورة مؤشّر للعبور إلى الشخصيات التّاريخية. وأقول الشخصيات التّاريخية لأنّ الأسطورة التي لا ترتكز على حقيقة تاريخية هي محض أحجيات وخرافة لا شأن للأسطورة بها بالمعنى الحقيقي للأسطورة، تلك التي تحمل مغزى التّاريخ نفسه لكن بخطاب فوق تاريخي، أي الأسطورة نفسها بمعنى ( storyو history).
لقد كان ولا يزال معيار الدّين مدى الاستجابة للمحتوى القرآني بعيدا عن تأثير الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية. والواقع أنّ الدين حالة ديناميكية لا يمكن أن تظلّ حبيسة النصوص. فما أن يتمثل المجتمع حقائق الدين حتى تصبح عرضة للتظهير الاجتماعي وتخضع لتداخل عجيب وخلاّق ونزّاع أيضا للعوائد. فالمجتمع يحمي تديّنه بتكييف مشاعره مع قضايا الدين بعد أن يخضع هذا الأخير لتعبيراته الشعبوية. وهذه العملية لا حدود لها مما يجعل دعوى المصلحين أساسية بوصفهم ضمير الأمة وصنّاع خطابها الواعي. إن جدل العلماء والجمهور هو جدل الوعي واللّاوعي. يستكين الجمهور لخطاب اللاّوعي بقدر ما ينزع المثقف والعالم إلى خطاب الوعي.
وليس بالضرورة أن خطاب اللاّوعي هو خطاب اللاّعقل. بل يقدّم اللاوعي الجماعي في الغالب خطابه على أساس ضرب من المعقول. وقد يعارض أحيانا خطاب العقل إذا قدّم في صورة مجرّدة تخالف المعقول الاجتماعي والتّاريخي. ولكن يسلّم له في حالة بلغ الخطاب اللاواعي إلى الباب المسدود وعمّت الرتابة. هناك مساحات حقيقية يسمح بها الخطاب الديني العالم للممارسة الاجتماعية للدين، بوصفها مساحات تعزّز من مكانة الدّين وفاعليته. فلا يمكن أن يوجد دين من دون تعبير اجتماعي، كما لا يمكن أن يكون التعبير الاجتماعي من دون طقوس ثقافية نابعة من خبرات اجتماعية مخصوصة. لكن وظيفة الخطاب الدّيني العالم هو مراقبة حدود هذه التعبيرات ومقاومة الشّطط، حتى لا يتمّ بذلك تعدّي حدود الله.
وحدود الله هو المعقول من الدين والشريعة والعقل. إنّ قصّة هابيل وقابيل ومواقف إبراهيم ومشهد أصحاب الأخدود وتضحيات موسى وسائر الأنبياء والصّالحين هي مظهر من مظاهر الحدث العاشورائي حينما ينبري الحقّ كلّه للظّلم كلّه. هناك قراءة باردة وتلفيقية للحدث الحسيني ، كتلك التي قام بها البعض بجهل بسيط وتلقفها منه مريدوه بجهل مركّب، لإبراز خطورة الموقف ومنح الحدث الحسيني دميعات في محاولة عبثية لسرقة الحسين من أنصاره الحقيقيين الذين لم ينسوه أبدا. وتأخذ العبثية هنا منحى منح الحسين بعضا من التعبيرات العاطفية فيما نسعى لإبقاء التّاريخ على نزعته الأموية. أو مقاربة الحدث الحسيني في كربلاء في ضوء الحدث الحسني في الصّلح، في محاولة للتفريق بين من جمع بينهما الرسول(ص) منذ قال: “الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة”! وقد كان الحسين في عهد الصّلح وصالح على الشّروط التي تحفظ الكرامة وتحقن الدماء ، كما لم يكن أمام الحسن لو عاصر محنة الحسين إلاّ أن يكون كربلائيا حينما تهدر الكرامة و ينتهك عقد الصّلح وتستباح الدّماء.
فلا يفرّق بين الحسن والحسين في الفضل والشّأنية إلاّ زنديق آثم وما أكثرهم في عرصاتنا. إن سفر الحسين لا يحسن أن يقرؤه إلاّ الأحرار. وإنّ من معجزة القضية الحسينية أنّ مصاب أبي عبد الله لا يستدعي إلاّ دمعة صادقة. فمن أدرك من الحسين عِبرة وعَبرة دخل بيت الأحرار ولن يخرج منه أبدا. ذلك لأنّ كلّ شيء يهون أمام هذا المصاب؛ فلا يوم كيومك أبا عبد الله!
*إدريس هاني، الاجتهاد