حدود العقل والقلب
وكان شديداً، قاصفاً، مُزَمْجِرأ،كالرعدِ في ليالي الويل .
فالينبوغُ هو الينبوعُ لا حسابَ في جَريِه لِلّيْلٍ أونهار.
مَن تتبّع سِيَرالعظماء في التاريخ لا فرقَ بين شرقيَّ منهم وغربيّ، ولا بين قديمٍ ومُحْدَث أدرك ظاهرةً لا تخفي وهي: إنّهم على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تبايُن مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني اٌدباء موهوبون على تفاوتٍ في القوة والضعف، فهم بين منتج خلّاق، ومتذوّق قريب التذوّق من الإنتاج والخلق، حتّى لكأنّ الحسّ الأدبي - بواسع دنيواته ومعانيه وأشكاله - يلزم كلّ موهبة خارقة في كلّ لونٍ من ألوان النشاط العظيم .
فنظرةٌ واحدةٌ إلى الأنبياء، مثلاً، تكفي لتقريرهذه الظاهرة في الأذهان .
فما داوود وسليمان وأشعيا وأرميا وأيّوب والمسيح ومحمّد إلّأ اُدباء، اُوتوا من الموهبة الأدبية ما اُوتو وما اُوتوا من سائرالمواهب [١] .
هذا نابوليون القائد، وأدوارهريوالسياسي، ولينين المشترع والزعيم، وأفلاطون الفيلسوف، وباسكال الرياضي، وجواهرلال نهرو رجل الدولة والفكر، وباستورالعالم الطبيعي، وجمال الدين الأفغاني المصلح الاجتماعي: إنّهم جميعاً اُدباء، لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله .
فلكلًّ منهم لونٌ من ألوان النشاط الفكري حَدّده الطبْعُ والموهبة، ثم رعتِ النزعةُ الجماليّةُ ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص .
هذه الحقيقة تتركّزجليةً واضحة في شخصية عليّ بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب وسرّه البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوقٍ وفي ما علّم وهدى، وآیته فی ذلك ((نهج البلاغة)) الذي يقوم في اُسُس البلاغة العربية في ما یلی القرآن من اُسُس، وتتّصل به أساليبُ العرب في نحوِ ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقتبس منه ويحيا جيّدُها في نطاقٍ من بيانه الساحر.
أمّا البيان، فقد وصل عليٌّ سابقه بلاحقِه، فضمّ من روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذّب المتّحد بالفطرة السليمة والمنطق القويّ؛ اتحاداً لا يجوز فيه فصلُ العناصربعضها عن بعض .
فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحرالبيان النبويّ، ما حَدا ببعضهم إلى أنْ يقول في كلامه إنّه: ((دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق)) [٢] .
ولا غرْوَ [٣] في ذلك، فقد تهيّأتْ لعليَّ جميعُ الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة، فد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة وتصفو، ثمّ أنّه عايش أحكم الناس ((محمّد بن عبدالله)) وتلقّى من النبي رسالته بكلّ ما فيها من حرارة وقوّة .
أضفْ إلى ذلك استعداداته الهائلة ومواهبة العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة ومن البيئة !
أمّا الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له بكلّ عبارة من (نهج البلاغة) عملاًعظيماً .
وهو ذكاءٌ حيَ، قديرٌ،واسعٌ، عميقٌ، لا تفوته أغوار.
إذا هوعملَ في موضوعٍ أحاط به بُعداً فما يُفلِت منه جانبٌ ولايُظلَم منه كثيرٌ أو قليل .
وغاص عليه عمقاً، وقَلبه تقليباً، وعركه عركاً [٤]، وأدرك منه أخفى الأسباب وأمعنها في الاختفاء، كما أدرك صدق النتائج المترتَّبة على ذلك الأسباب، ما قرُبَ منها أشدَّ القرب، وما بعد أقصى البُعد .
ومن شروط الذكاء العلويّ النادر، هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتّجهت.
وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة، حتّى تكون كلّ منها نتيجةً طبيعيةً لما قبلها، وعلّةً لِما بعدها .
ثمّ أنّ هذه الأفكار لا تجد فيها ما يُستغنى عنه في الموضوع المعالّج، بل لا تجد فيها ما يستقيم البحثُ بدونه .
وهو،لاتَّساع مداه،لايستخدم لفظاً إلّا وفي هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل وتمعن في التأمل، إذ لا تجد عبارة إلّا وتفتح أمامك آفاقاً وراءها آفاق من النظرالجليل .
فعن أيَّ رحبٍ وسيعٍ من مسالك التأمل والنظريكشف لك قوله: ((الناس أعداء ما جهلوا)) [٥] أو قوله ((قيمة كلّ امرىء ما يُحسنه)) [٦].
أو((الفجوردارُ حصنٍ ذليل)) [٧] .
وأيّ إيجازمُعجز هو هذا الإيجاز: ((مَن تخفّف لحق)) .
وأيّ جليلٍ من المعنى في العبارات الأربع وما تحويه من ألفاظ قلائل فُصّلت تفصيلاً، بل قُلْ: اُنزلت تنزيلاً !
ثمّ عن أيَّ حدّة في الذكاء واستيعابٍ للموضوع وعمقٍ في الإدراك يشفّ هذا الكشفُ العجيب عن طبْع الحاسد وصِفَةِ نفسه وحقيقةِ حاله: (( ما رأيتُ ظالماً أشبهَ بمظلومٍ من الحاسد: نفس دائم وقلبٌ هائم، وحزنٌ لازم، مغتاظٌ على مَن لا ذنبَ له، بخيلٌ بما لا يملك)) [٨] .
ويستمرّ تولّدُ الأفكارفي (نهج البلاغة) من الأفكار، فإذا أنت إمام حشدٍ منها لا ينتهي .
وهو مع ذلك لا يتراكم، بل يتساوق ويترتّب بعضه على بعض .
ولافرْقَ في ذلك بين ما يكتبه عليٌّ وبين ما يٌلقيه ارتجالاً، فالينبوغ هوالينبوع ولاحساب في جرْيه لليلٍ أونهار.
ففي خُطَبه المرتجلة معجزاتٌ من الأفكارالمضبوطة بضابط العقل الحكيم والمنطق القويم.
وإنك لتدهش أمام هذا المقدارمن الأحكام والضبط العظيمين، حين تعلم أنّ عليًّا لم يكن ليعدّ خُطّبه، ولو قٌبَيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة بقلبه منطلقة على لسانه عَفْوَ الخاطرلا عنتَ ولا إجهاد، كالبرق إذ يلمع ولا خبرَ يأخذه أو يعطيه قبل وميضه.
وكالصاعقة إذ تزمجرلا تُهيّء نفسَها لصعقٍ وزمجرة.
وكالريح إذ تهبّ فتلوي وتميل وتكسح وتنصبّ على غايةٍ، ثمّ إلى مداورها تعود، ولا ما يدفعها إلى أن تروح وتجيء إلّا قانونُ الحادثة ومنطقُ المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل ولا بعد!
ومن الظاهرالعقل القويّ في ((نهج البلاغة)) تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها عواطف الحزن العميق! إذ تهيج في نفسه.
فإنّ عاطفته الشديدة ما تكاد تُغرقه في محيط من الأحزان والكآبات البعيدة حتّى يبرزسلطان العقل بجلاء ومضاء، فإذا هو آمرٌ مطاع.
ومن ذكاء عليٌّ المفرط في نهجه أنّه نَوّع البحث والوصف فأحكم في كلّ موضوع،ولم يقصر جهده العقليّ على ناحية واحدة من الموضوعات، أو من طرق البحث.
فهو يتحدّث بمنطق الحكيم الخبيرعن أحوال الدنيا وشؤون الناس، وطبائع الأفراد والجماعات.
وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء.
ويسهب في القول في التاريخ الطبيعي، فيصف خفايا الخلق في الخفّاش والنملة والطاووس والجرادة وما إليها.
ويضع للمجتمع دساتير وللأخلاق قوانين.
ويبدع في التحدث عن خالق الكون وروائع الوجود.
وإنّك لا تجد في الأدب العربي كلّه هذا المقدارالذي تجده في ((نهج البلاغة)) من روائع الفكرالسليم والمنطق المحكّم في مثل هذا الاُسلوب النادر.
أمّا الخيال في ((نهج البلاغة)) فمديدٌ وسيع، خفّاق الجوانح في كلّ اُفق، وبفضل هذا الخيال القوي، الذي حُرم منه كثيرٌ من حكماء العصور ومفكرّي الاُمم، كان عليّ يأخذ من عقله وتجاربه المعاني ذات الموضوعية الخالصة، ثمّ يطلقها زاهيةً متحرّكة في إطارٍ تثبت على جنباته ألوانُ الجمال على أروع ما يكون اللون.
فالمعنى مهما كان عقليًّا جافاً لا يمرّ بمخيّلة عليَّ حتّى تنبت له أجنحةٌ تقضي فيه على صفة الجمود، وتُبلوِرُ ما فيه من حقيقة.
فخيال عليَّ هو نموذج للخيال العبقريّ الذي يقوم على أساسٍ من الواقع العميق، فيحيط بهذا الواقع ويُبْرزه ويجلّيه،ويجعل له امتداداتٍ من معدنه وطبيعته،ويصبغه بألوان كثيرة من مادّته ولونه.
فإذا الحقيقة تزداد وضوحاً، وإذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه.
وقد تميّزعليٌّ بقوِّة ملاحظةٍ نادرة، ثمّ بذاكرةٍ واعية تخزن وتتّسع.
وقد مرّ من أطوارحياته بعواطفَ جَرّها عليه حقدُ الحاقدين ومكرُالماكرين، ومرَ منها كذلك بعواطفَ كريمةٍ أحاطهَ بها وفاءُ الطيّبين وإخلاص المخلصين.
فتيسّرتْ له من ذلك جميعاً عناصرُ قويّة تغذّي خياله المبدع.
فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال وتتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة والحيوية، تتركّزعلى واقعيةٍ صافية تمتدّ لها فروعٌ وأغصان، ذاتُ أوراق وأثمار.
ومِن ثَمّ يمكنك - إذا شئتَ - أن تُحول عناصرالخيال القويّ في ((نهج البلاغة)) إلى رسومٍ مخطوطة باللون ؛ لشدّة واقعيتها واتّساع مجالها وامتداد أجنحتها وبروزخطوطها.
ألا ما أروعَ خيالَ الإمام إذ يخاطب أهلَ البصرة، وكان بنفسه ألمٌ بعد موقعة الجمل، قائلاً: ((لَتَغرِقَنّ بلدتُكم، حتّى كأنّني أنظرُ إلى مسجدها كجؤجؤ طير في لُجّة بحر!)) [٩], [١٠].
أو في مثل هذا التشبيه الساحر: ((ففِتَنٌ كِقِطَع الليل المظلم)) [١١].
أو هذه الصورة المتحرّكة: ((وإنّما أنا كَقُطب الرحى: تدورعليّ وأنا بمكاني)) [١٢].
أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيَلة، وتبدو له شُرُفاتُهن كأنّها أجنحةُ النسور: ((ويلٌ لسِكَكِكم العامرة، والدورالمزخرفة،التي لها أجنحةٌ كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيَلة)) [١٣].
ومن مزايا الخيال الرحْبِ قوّةُ التمثيل.
والتمثيلُ في أدب الإمام وجهٌ ساطعٌ بالحياة.
وإنّ شئتَ مَثلاً على ذلك فانظرْ في صاحب السلطان الذي يغبطه بعضُ الناس ويتمنّون ما هو فيه من حال،ولكنّه أعلمُ بموضعه من الخوف والحذَر، فهو وإنّ أخافَ بمركوبه إلّا أنّه يخشى أنّ يغتاله.
ثمّ انظرْ بعد ذلك إلى عليًّ كيف يمثّل هذا المعنى، فيقول: ((صاحب السلطان كراكب الأسد: يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه)) [١٤].
وإن شئتَ مثلاً آخرً فاستمع إليه يمثّل حالةَ رجلٍ رآه یسعى على عدوً له بما فيه إضرارٌ بنفسه، فيقول: ((إنّما أنت كالطاعن عن نفسَه ليقتلَ رِدفَه)) [١٥] والرّدْف هوالراكبُ خلفَ الراكب.
ثمّ إليك هذا الاُسلوب الرائع في تمثيل صاحب الكذب: ((إيَاك ومصادقةَ الكذاب فإنه كالسراب: يُقرّبُ عليك البعيد ويُبعد عنك القريب!)) [١٦] .
أمّا النظرية الفنيّة القائلة بأنّ كلّ قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفنّ، فهي أن صحّت فإنّما الدليلُ عليها قائمُ في حديث ابن أبي طالب عن سكّان القبور.
فما أهوَلَ الموتَ وما أبشع وجهَه َ وما أروع كلام ابن أبي طالب فيه وما أجمل وقْعَه! فهو قولٌ آخذٌ من العاطفة الفيَاضة نصيباً كثيراً، ومن خيال الخصب نصيباً أوفر.
فإذا هو لوحةٌ من لوحات الفنّ العظيم لا تُدانيها إلّا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعةَ صوّروا الموت وهَوْلَه لوناً ونغماً وشعرا.
فبعد أنْ يُذكُرعليٌ الأحياء بالموت ويُقيم العلاقَة بينهم وبينه، يوقظهم على أنّهم دانُون مِن منزل الوحشة بقولٍ فيه من الغربِة القاسية لونٌ قاتمٌ ونعَمٌ حزين: ((فكأن كلَ امرىء منكم قد بلغ من الإرضِ منزل وَحدْتِه، فيالَه مِن بيت وَحْدة، ومنزِل وَحْشة , ومَفْرَدِ غربة!)) [١٧].
ثمّ يهزّهم بما هُم مسرعون إليه، ولايدرون بعباراتٍ متقطّعة متلاحقة، وكأنّ فيها دويّ طبول تُنْذر تقول: (( ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرعَ الأيام في الشهر، وأسرع الشهورفي السنة، وأسرع السنين في العُمُر!)) [١٨].
بعد ذلك يٌطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقلُ، وتُشعلها العاطفة، ويجسّم الخيالُ الوثّابُ عناصرَها، ثمّ يعطيها هذه الحركات المتتابعةَ: وهي بين عيونٍ تدمع، وأصواتٍ تنوح، وجوارحَ تئنّ، قائلاً: ((وإنّما الأيّام وبينهم بواكٍ ونوائحُ عليكم)) [١٩] .
ثمّ يعود فيُطلق لعاطفته وخياله العنانَ، فإذا بهما يُبدعان هذه اللوحةَ الخالدة من لوحات الشعر الحّي: ((ولكنّهم سُقُوا كأساً بَدّلتْهم بالنُّطق خَرَساً، وبالسّمْع صمَماً، وبالحركات سكوناً.
فكأنّهم في ارتجالِ الصّفة صرعى سُبات [٢٠].
جيرانٌ لا يتنآنسون، وأحبّاء لا يتزاورون. بَليت بينهم عُرى التعارف، وانقطعت منهم أسبابُ الإخاء. فكلّهم وحيدٌ وهمْ جميعٌ، وبجانب الهجر وهم أخلّاء، لا يتعارفون لليلٍ صباحاً، ولا لنهارمساءً. أيّ الجديدَين [٢١] ظَعنُوا فيه كان عليهم سَرْمَدا [٢٢])) [٢٣].
ثمّ يقول فيهم هذا القول الرهيب: ((لايعرفون مَن أتاهم، ولايحْفِلون مَن بكاهم، ولايجيبون مَن دعاهم)) [٢٤].
فهل رأيت إلى هذا الإبداع في تصويرهَوْل الموت وَوحْشةِ القبر وصِفَة سكّانه في قَوله: ((جيرانٌ لا يتآنسون وأحبّاء لا يتزاورون؟)) [٢٥].
ثمّ هل فطنتَ إلى هذه الصورة الرهيبة الأبديّة للموت التي لا ترسمه إلّا عبقرية عليّ: ((أيَ الجديدَين ظَعَنوا فيه كان عليهم سَرْمدا)) [٢٦].
ومثل هذه الروائع في ((النهج)) كثير.
هذا الذكاء وهذا الخيال في (( نهج البلاغة)) يتّحدان اتّحادَ الطبيعة بالطبيعة مع العاطفة الشديدة التي تمدّهم بوهج الحياة، فإذا الفكرة تتحرّك وتجري في عروقها الدماءُ سخيّةً حارّة.
وإذا بها تخاطب فيك الشعورَبمقدار ما تخاطب العقلَ لانطلاقها من العقل الذي تمدّه العاطفةُ بالدفء.
وقد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب وسائرالفنون، إن لم تكن للعاطفة مشاركةٌ فعّالة في إنتاج هذا الأثر.
ذلك أنّ المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعياً، إلّا ما كان نِتاجاً لهذا المركّب، وهذا الأثرالأدبي الكامل، وهو ما نراه في نهج البلاغة.
وإنّك لَتحسّ نفسك مندفعاً في تيّار جارفٍ من حرارة العاطفة بسائرألوانه، وأنت تسيرفي نهج البلاغة من مكانٍ إلى آخر.
أفّلا يشيع في قلبك الحنانُ والعطفُ شيوعاً وأنت تصغي إلى عليَّ يقول:
((لو أحبّني جبلٌ لَتهافتَ؟)) [٢٧] .
أو ((لا رأي لمن لا يُطاع؟)) [٢٨] .
أو ((دعوني والتمسوا غيري؟)) [٢٩] .
أو ((يا دنيا! يا دنيا، غرّي غيري!)) [٣٠] .
أو في هذا القول الموجزالزاخر بالحنان.
((فقدُ الأحبّة غربة )) [٣١].
أو في قوله: ((اللهمّ إني استَعْديك على قريش، فإنّهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي، وقالوا: ألَا إنَّ في الحقّ أنْ تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبرمغموماً أو متْ متأسّفاً. فنظرتُ فإذا ليس لي رافدٌ، ولا ذابّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي!)) [٣٢].
وإليك هذا الجمال الطافح بالعاطفة، وهذه القوّة في الرقّة واللوعة، في كلامٍ له عنده دفن السيّدة فاطمة، ويخاطب به ابنَ عمّه الرسول:
((السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك! قّلّ، يا رسول الله، عن صفيّتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلّا أنّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك، موضع تعَزّ؟)) [٣٣] .
ومنه: ((أمّا حزني فسرْمد، وأمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختارالله لي دارك التي أنت بها مقيم ؟)) [٣٤].
----------------------------------------
[١] . من الثابت أن أنبياء الله (عليهم السلام) معصومون،وقد أكرمهم الله تعالى بصفات خُلقية وخَلقية من أجل أداء الرسالات... وهم مختلفون في معاجزهم كلٌّ حسب ظروفه وعصره ومهمّته. والجنبة الأدبية احدى تلك الصفات المودعة فيهم وقد تجلّت في البعض منهم دون الآخرتبعاُ للظروف الذي يقتضي إظهار تلك الصفة .
[٢] . نهج السعادة: ٧ / ٥٥، شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ١ / ٤، بحارالأنوار:١٠٤ / ٢١٠ .
[٣] . لاغرو: لاعجب، كتاب العين: ٤ / ٤٤١، مادة ((غرو)) .
[٤] . عركه عركاً: قلبه ظهراً لبطن .
[٥] . نهج البلاغة، قصارالحكم: ١٧٢، ٤٣٨ .
[٦] . قصارالحكم: ٨١ .
[٧] . نهج البلاغة: الخطبة ١٥٧ – ٥ .
[٨] . مستدرك الوسائل: ١٢ / ٧، كنزالفوائد للكراجكي: ٥٧، تحف العقول: ٢١٦ .
[٩] . الجؤجو: الصدر.النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ١ /٢٢٥، مادة ((جؤجؤ)) .
[١٠] . نهج البلاغة: الخطبة ١٣ – ٤ .
[١١] . نهج البلاغة: الخطبة ١٠٢ – ٣.
[١٢] . نهج البلاغة: الخطبة ١١٩ – ٣ .
[١٣] . نهج البلاغة: الخطبة ١٢٨ – ٥ .
[١٤] . نهج البلاغة، قصارالحكم: ٢٦٣ .
[١٥] . نهج البلاغة، قصارالحكم: ٢٩٦ .
[١٦] . غررالحكم ودررالكلم: ٢٦٥ .
[١٧] . نهج البلاغة: الخطبة ١٥٧ – ١٤ .
[١٨] . نهج البلاغة: الخطبة ١٨٨ – ٨ .
[١٩] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٢١ – ٧ .
[٢٠] . ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمّل، فالواصف لهم بأوّل النظر يظنّهم صرعى من السبات، أي النوم .
[٢١] . الجديدان: الليل والنهار. الصحاح: ٢ / ٤٥٤، مادة (( جدد)) .
[٢٢] . سرمد: أبدي، الدائم،الصحاح: ٢ / ٤٨٧، مادة ((سرمد)) .
[٢٣] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٢١ – ١٥ .
[٢٤] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠ – ١٢ .
[٢٥] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٢١ – ١٣ .
[٢٦] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٢١ – ١٥ .
[٢٧] . نهج البلاغة، قصارالحكم: ١١١ .
[٢٨] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٧ – ١٦ .
[٢٩] . نهج البلاغة: الخطبة ٩٢ – ١ .
[٣٠] . نهج البلاغة، قصارالحكم: ٧٧ -، وجاء فيها: يادنيا يا دنيا...هيهات غرّي غيري، لاحاجة لي فيك.
[٣١] . نهج البلاغة: قصارالحكم: ٦٥ .
[٣٢] . نهج البلاغة: الخطبة ٢١٧ - ٣ .
[٣٣] . نهج البلاغة: الخطبة ٢٠٢ - ١ .
[٣٤] . نهج البلاغة: الخطبة ١٥١ - ١٣ .
يتبع ...
مقتبس من كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية – جورج جرداق