ثم يلمس فيه مقدار إفادة علي (عليه السلام) من بيانه وحكمته، وناهيك بالقرآن مؤدّباً ومهذّباً، يستنطق البكي الأبكم فيفتق لسانه بالبيان الساحر، والفصاحة العالية، فكيف إذا كان مثل علي في خصوبته وعبقريته واستعداده ممّن صفت نفوسهم، وأعرضوا عن الدنيا، وأخلصوا للدين، فجَرَت ينابيع الحكمة من قلوبهم، متدفّقة على ألسنتهم، كالمحيطات تجري بالسلس العذب من الكلمات؟
وهل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، وبالغ منطقه إلاّ أثراً من علي (عليه السلام)، وقطرة من محيط أدبه؛ ففتن الناس بعبادته، وخلّب ألبابهم بجمله، فكيف يكون الأُستاذ العليم، والإمام الحكيم، علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
لقد كان عليّ (عليه السلام) في خطبه المتدفّقة يمثّل بحراً ضخماً من العلماء الربّانيّين وأُسلوباً جديداً لم يكن إلّا لسيّد المرسلين، وطرق بحوثاً من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلّا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه وسلست في منطقه وأدبه .
وخاض في أسرار الكون، وطبائع الناس، وتشريح النفوس، وبيان خصائصها وأصنافها، وعرض لمداخل الشيطان ومخارجه، وفتن الدنيا وآفاتها، في الموت وأحواله، وفي بدء الخلق، ووصف الأرض، وفي شأن السماء وما يعرج فيها من أملاك، وما يحفّ بها من أفلاك، كما عرض لملك الموت، وأطال في وصفه .
وخطب عليّ (عليه السلام) في السياسة، وفي شؤون البيعة والعهد والوفاء، واختيار الأحقّ وما أحاط بذلك من ظروف وصروف، كتحكيم صفّين وما تبعه من آثار سيئة وتفرّق الكلمة.
ولم يفته أن ينوّه في خطبه بأنصار الحقّ، وأعوان الخير، والدعوة إلى الجهاد، وفيها محاجّة للخوارج، ونصحه لهم ولأمثالهم باتّباع الحقّ. وغير ذلك ممّا يكفي فيه ضرب المثل، ولفت النظر.
غير أنّ ناحية عجيبة امتاز بها الإمام، هي ما اختصّ الصفوة من الأنبياء ومن على شاكلتهم، كانت تظهر في بعض تجلّياته، وأشار إليها في بعض مقاماته، ولم يسلك فيها سواه إلّا أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد ذكر كثيراً من مستقبل الأُمّة، وأورد ما يكون لبعض أحزابها كالخوارج وغيرهم، ومن ذلك وصفه لصاحب الزنج وذكر الكثير من أحواله، وذلك من غير شكّ لونٌ من الكرامات .
هذا إلى أنه طرق نواحي من القول كانت من خواصّ الشعر إذ ذاك، وكلّه ضمّنها خطبه؛ فوصف الطبّ، وعرض للخفّاش وما فيه من عجائب، والطاووس وما يحويه من أسرار، وما في الإنسان من عجائب الخلق، وآيات المبدع الحق. وأُحيلك في ذلك كلّه على «نهج البلاغة».
وهكذا تجد في كلام علي (عليه السلام)؛ الدين والسياسة، والأدب، والحكمة، والوصف العجيب، والبيان الزاخر.
هذا كتاب علي (عليه السلام) إلى شريح القاضي يعظه، وقد اشترى داراً، ويحذّره من مال المسلمين، في معان عجيبة، وأُسلوب خلاّب. وهذا كتابه إلى معاوية يجادله في الأحقّ بالخلافة، وقتل عثمان، في معان لا يحسنها سواه.
وتلك كُتُبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع ملابساتهم .
وذلك عهده إلى محمّد بن أبي بكر حين قلّده مصر، (وعهده للأشتر) .
وتلك وصيته إلى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه الحياة لمثله إلّا وجّهه فيها أسمى توجيه، في فلسفة خصبة، وحكم رائعة مفيدة، وكل تلك النواحي والأغراض في معان سامية مبسّطة، يعلو بها العالم الربّاني الغزير، والروح السامية الرفيعة، وتدنو بها القوّة الجبّارة على امتلاك أزمّة القول، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكلّ معنى لفظه في أدقّ استعمال .
(تمام نهج البلاغة, السيد صادق الموسوي,ج1, ص 89-91).