تطهير جهاز الدولة :
أول عمل قام به الإمام علي (ع) فور توليته لمنصب رئاسة الدولة هو عَزل وُلاة عثمان الذين سَخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة، وأُثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال، وعزل (عليه السلام ) معاوية بن أبي سفيان أيضاً .
ويقول المؤرخون : أنّه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثُمّ يعزله، فأبى الإمام (ع) ، وأعلن أنّ ذلك من المداهنة في دينه، وهو مما لا يُقرّه ضميره الحيّ، الذي لا يسلك أيّ طريق يبعده عن الحقّ ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له، وإقرارا بعدالته، وصلاحيته للحكم .
تأميم الأموال المختلسة :
أصدر الإمام علي (ع) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد .
فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه ، والأموال التي استأثر بها عثمان، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه، وأضافها الإمام (ع) إلى بيت المال .
وقد فزع بنو أمية كأشدّ ما يكون الفزع، فهم يرون الإمام (ع) هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان، وهم يطالبون الهاشميين بردّ سيف عثمان، ودرعه، وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام (عليه السلام) .
وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول، فقد أيقنت أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حقّ .
فقد كتب عمرو بن العاص رسالة إلى معاوية جاء فيها : ما كنتُ صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كُلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها .
لقد راح الحسد ينهش قلوب القرشيين ، والأحقاد تنخر ضمائرهم ، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرد على حكومة الإمام (عليه السلام) .
اِلتياع الإمام (ع) :
وامتُحِن الإمام ( ع) امتحاناً عسيراً من الأُسَر القرشية ، وعانى منها أشدّ ألوان المِحن والخُطوب في جميع أدوار حياته .
فيقول (عليه السلام) : (لقد أخافَتني قُريش صغيراً ، وأنصبتني كبيراً ، حتى قبض الله رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت الطامّة الكبرى ، والله المُستعان على ما تَصِفون) .
ولم يعرهم الإمام (ع) اهتماماً ، وانطلق يؤسس معالم سياسته العادلة ، ويحقق للأمّة ما تصبوا إليه من العدالة الاجتماعية .
وقد أجمع رأيه (عليه السلام) على أن يقابل قريش بالمِثل، ويسدد لهم الضربات القاصمة إن خلعوا الطاعة، وأظهروا البغي .
فيقول (عليه السلام) : ( مَالي وَلِقُريش ، لقد قتلتُهم كافرين ، ولأقتلنَّهم مَفتونين ، والله لأبقرنَّ الباطل حتى يظهر الحقّ من خَاصِرَتِه ، فَقُلْ لقريش فَلتضجّ ضَجيجَها ) .
سياسة الإمام (ع) :
فيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام (ع) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي :
أولاً : السياسة المالية:
كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام (ع) امتداد لسياسة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية، وإنعاش الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأمّة توزيعاً عادلاً على الجميع .
ومن مظاهر هذه السياسة هي:
1 - المساواة في التوزيع والعطاء ، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز ، وإنّما الجميع على حدٍّ سواء.
فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأسرة النبيّ (ص) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره .
وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم ، فأعلنوا سخطهم على الإمام (ع) .
وقد خفت إليه جموع من أصحابه تطالبه بالعدول عن سياسته فأجابهم الإمام (ع) : ( لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف، وإنّما المال مال الله، ألا وإنّ إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويُكرّمه في الناس، ويهينه عند الله ) .
فكان الإمام (ع) يهدف في سياسته المالية إلى إيجاد مجتمع لا تطغى فيه الرأسمالية، ولا تحدث فيه الأزمات الاقتصادية، ولا يواجه المجتمع أي حِرمان أو ضيق في حياته المعاشية .
وقد أدّت هذه السياسة المشرقة المستمدة من واقع الإسلام وهَدْيهِ إلى إجماع القوى الباغية على الإسلام أن تعمل جاهدة على إشاعة الفوضى والاضطراب في البلاد ، مستهدفة بذلك الإطاحة بحكومة الإمام (ع) .
2 - الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية، وإنشاء المشاريع الزراعية، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أصول الاقتصاد العام في تلك العصور .
وقد أكد الإمام (ع) في عهده لمالك الأشتر (رض) على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها .
فيقول (عليه السلام) : ( وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يُدرك إلاّ بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً ) .
لقد كان أهمّ ما يعني به الإمام (ع) لزوم الإنفاق على تطوير الاقتصاد العام ، حتى لا يبقى أي شبح للفقر والحرمان في البلاد .
3 - عدم الاستئثار بأيّ شيء من أموال الدولة، فقد تحرّج الإمام (ع) فيها كأشدّ ما يكون التحرّج .
وقد أثبتت المصادر الإسلامية بوادر كثيرة من احتياط البالغ فيها ، فقد وفد عليه أخوه "عقيل" طالباً منه أن يمنحه الصلة ويُرَفّهُ عليه حياته المعاشية ، فأخبره الإمام (ع) أنّ ما في بيت المال للمسلمين ، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً ، وإذا منحه شيء فإنّه يكون مختلساً .
وعلى أيّ حال فإنّ السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام (ع) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام ، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته (عليهم السلام) ، والتحقوا بالمعسكر الأموي الذي يضمن لهم الاستغلال ، والنهب ، وسلب قوت الشعب ، والتلاعب باقتصاد البلاد .
ثانياً : السياسة الداخلية :
عنى الإمام (ع) بإزالة جميع أسباب التخلف والانحطاط ، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلبات حياته ، من الأمن والرخاء والاستقرار ، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها :
1 - المساواة : وتجسّدت فيما يأتي :
أ - المساواة في الحقوق والواجبات .
ب - المساواة في العطاء .
ج - المساواة أمام القانون .
وقد ألزم الإمام (ع) عُمّاله وَوُلاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم .
فيقول (عليه السلام) في بعض رسائله إلى عماله: ( واخفضْ للرعيّة جناحك ، وابسط لهم وجهك ، وأَلِنْ لهم جانبك ، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة ، والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ، ولا ييأس الضعفاء من عدلك ) .
2 - الحريّة :
أمّا الحريّة عند الإمام (ع) فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان، ويجب أن تتوفر للجميع، شريطة أن لا تستغلّ في الاعتداء والإضرار بالناس، وكان من أبرز معالمها هي الحريّة السياسية .
ونعني بها أن تُتَاح للناس الحريّة التامّة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه .
وقد منح الإمام (ع) هذه الحريّة بأرحب مفاهيمها للناس، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته .
فلم يجبرهم الإمام (ع)، ولم يتخذ معهم أي إجراء حاسم كما اتخذه أبو بكر ضده حينما تَخلّف عن بيعته .
فكان الإمام (ع) يرى أنّ الناس أحرار ، ويجب على الدولة أن توفر لهم حريتهم ما دام لم يخلوا بالأمن ، ولم يعلنوا التمرد والخروج على الحكم القائم .
وقد منح (عليه السلام) الحريّة للخوارج ، ولم يحرمهم عطاءهم مع العلم أنّهم كانوا يشكلون أقوى حزب معارض لحكومته .
فلما سَعوا في الأرض فساداً ، وأذاعوا الذعر والخوف بين الناس انبرى إلى قتالهم حفظاً على النظام العام ، وحفظاً على سلامة الشعب .
ثالثاً : الدعوة إلى وحدة الأمّة :
وجهد الإمام (ع) كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأمّة ونشر الأُلفة والمحبة بين أبنائها .
واعتبر (عليه السلام) الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأمّة .
فيقول (عليه السلام) : ( إنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كُلّ ثمن ، وأجلُّ من كُلّ خطر ) .
فقد عنى الإمام (ع) بوحدة الأمّة ، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها ، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته .
فقد ترك (عليه السلام) حَقّه وسَالَم الخلفاء صِيانة للأمّة من الفرقة والاختلاف .
رابعاً : تربية الأمّة :
لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنّه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام (ع)، وإنّما عنوا بالشؤون العسكرية ، وعمليات الحروب ، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية ، وبسط نفوذها على أنحاء العالم .
وقد أولى أمير المؤمنين (ع) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية ، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية .
وكان (عليه السلام) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله ، وإظهار فلسفة التوحيد ، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفا من ذلك نشر الوعي الديني ، وخلق جيل يؤمن بالله إيمانا عقائدياً لا تقليدياً .
فقد كان الإمام (ع) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام ، وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين ، وكان دوماً يذيع بين أصحابه قوله : ( سَلوني قَبلَ أن تفقدوني ، سَلوني عن طُرق السَّماء ، فإنّي أبصَرُ بها من طُرُق الأرض ) .