الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد على العلم والتعلّم:
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يؤكد بشكل حثيث على العلم والتعلّم ومن ذلك قوله (عليه السلام): (ليت السياط، على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام)، المصدر: المحاسن ج 1 ص 229.
وقال (عليه السلام): (حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة)، المصدر: المحاسن ج 1 ص 229.
وروى بشير الدهّان، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): (لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا يا بشير ! إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم)، المصدر: الكافي ج 1 ص 33.
وقال (عليه السلام): (تفقّهوا فإنّه يوشك أن يُحتاج إليكم)، المصدر: المحاسن ج 1 ص 229
وقال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة جمع الله عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)، المصدر: من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 398- 399
وقال (عليه السلام): (عالم أفضل من ألف عابد وألف زاهد)، المصدر: بصائر الدرجات ج 1 ص 8.
الإمام الصادق (عليه السلام) يرشد الى خيرة اصحابه:
وقد اعتاد المسلمون منذ بدء الإسلام على تلقّي أمور دينهم من أهل البيت (عليهم السلام) بدءاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سائر الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وحيث إنّ المسلمين انتشروا في مختلف البلاد وكثر عددهم وصار من الصعب عليهم الرجوع إلى الأئمة (عليهم السلام) والتلقّي منهم مباشرة وتكالب الآخرين على مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتحيّنهم الفرص كي يضلّوهم عن خط الاسلام الأصيل ، لذا عمد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى طريقة أخرى تصونهم من أهل الفتن وتبصّرهم أمور دينهم ألا وهي إرجاعهم للثقات من أصحابه ممّن أخذوا معالم دينهم عنهم (عليهم السلام) وتربّوا عليهم تربية سليمة بحيث يمكنهم بيان أحكام الله وحل مشاكل الناس.
وينبغي الالتفات إلى أنّهم (عليهم السلام) أرجعوا الموالين إلى خيرة أصحابهم ممّن زقّوا العلم زقاً، وتميّزوا بالتقى والصلاح والصلابة في العقيدة ولم يرجعوهم إلى أناس عاديين لا يفقهون أمور الدين.
فمن الذين أرجع إليهم الإمام الصادق (عليه السلام) زرارة بن أعين، قال (عليه السلام) للفيض بن المختار: (إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس مشيراً إلى زرارة)، المصدر: وسائل الشيعة ج 27 ص 143 .
ويقول عبد الله بن أبي يعفور: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال: (ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيها)، المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 400 .
وقال (عليه السلام) ليونس بن عمّار: (أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) فلا يجوز لك أن تردّه)، المصدر: وسائل الشيعة ج 27 ص 143.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لشعيب العقرقوفي، حيث قال له: ربّما احتجنا أن نسأل الشيء فممّن نسأل؟
قال: عليك بالأسدي، يعني: أبا بصير. المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 400 .
وروی عن يونس بن يعقوب، قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع ؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه ؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟ المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 628 .
الامام جعفر الصادق (عليه السلام) يفتح باب التخصّصات:
كما فتح الامام جعفر الصادق (عليه السلام) باب التخصّصات: وذلك بعد تشخيص مؤهّلات الأصحاب وكفاءاتهم وميولاتهم، فخصّ (أبان بن تغلب) بالفقه، وكان أبان كما عن إبراهيم بن يزيد النخعي مقدّماً في كل فن من العلوم ومنها الفقه والحديث والأدب واللغة والنحو وله كتب كثيرة، وكان الإمام (عليه السلام) يُرجع إلى أبان في تلقّي الأحاديث، فعن عثمان: أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال له: (إنّ أبان بن تغلب روى عنّي ثلاثين ألف حديث، فاروها عنّي). المصدر: رجال النجاشي ص 12 .
وعن عن سليم بن أبي حيّة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ، فلما أردت أن أفارقه ودّعته وقلت: أحب أن تزودني، فقال: ايت (أبان بن تغلب) فإنه قد سمع منّي حديثا كثيرا فما روى لك فاروه عنّي . المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 623 .
وأوكل (عليه السلام) (محمد بن علي بن النعمان الكوفي الصيرفي) علوم العقيدة والمناظرة، وقد بلغ الأمر أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) نهى تلامذته عن مناظرة الآخرين ماعداه.
يقول (أبو خالد الكابلي): رأيت (أبا جعفر صاحب الطاق) وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت: إنّ أبا عبد اللَّه ينهانا عن الكلام.
فقال: أمرك أن تقول لي؟
فقلت: لا واللَّه، ولكن أمرني أن لا أُكلَّم أحداً، قال: فاذهب إليه وأطعه فيما أمرك.
فدخلت على أبي عبد اللَّه (عليه السلام) فأخبرته بقصة صاحب الطاق، وما قلت له، وقوله لي: اذهب فأطعه فيما أمرك، فتبسّم أبو عبد اللَّه (عليه السلام) وقال: يا أبا خالد إنّ صاحب الطاق يكلَّم الناس فيطير وينقض، وأنت إن قصوك لن تطير. اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 424.
وجعل (مؤمن الطاق) للمساجلة في الكلام، و(هشام بن الحكم) للمناظرة في الإمامة والعقائد.
وبل بلغت مرتبته هشام وعلوّه عند الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه دخل عليه بمنى وهو غلام أوّل ما اختط عارضاه وفي مجلسه شيوخ الشيعة: كحمران بن أعين، وقيس الماصر، ويونس بن يعقوب، وأبو جعفر الأحول، وغيرهم، فرفعه على جماعتهم وليس فيهم إلّا من هو أكبر سنّا منه، ولمّا رأى الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ ذلك الفعل كبر على أصحابه، قال: (هذا ناصرنا بقلبه، ولسانه، ويده).
وقال (عليه السلام) له بعد أن أجابه على سؤاله عن أسماء اللّه عزّ وجلّ واشتقاقها: (أفهمت يا هشام فهماً تدفع به أعدائنا الملحدين مع اللّه عزّ وجلّ؟
فقال هشام: نعم.
فقال الإمام الصادق (عليه السلام): (نفعك اللّه به وثبّتك).
قال هشام: فو اللّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا)، المصدر: مستدرك الوسائل ج 23 ص 449 .
وقال (الفيض بن المختار) للإمام الصادق (عليه السلام) : (إنّى لأجلس في حلقات أصحابنا بالكوفة، فأكاد أشك باختلافهم في حديثهم، حتى أرجع إلى المفضّل، فيقضي من ذلك عليّ ما تستريح إليه نفسى، و يطمئن إليه قلبي، قال الإمام: أجل هو كما ذكرت)، المصدر: توحيد المفضفل ص 10.
الامام الصادق (عليه السلام) يؤكد على نشر العلوم:
ولم يقتصر الإمام الصادق (عليه السلام) على حث الموالين على التعلّم، بل دعاهم إلى نشر علومهم وإنقاذ الناس من هلكات الشبهات وبدع المُحدثين من أهل الضلال، فقد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال: (زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله). المصدر: الكافي ج 1 ص 41.
وقال (عليه السلام): (لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله). المصدر: تحف العقول ص 364.
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من علّم خيراً فله أجره، قلت: فإن علّم ذلك غيره، قال: يجرى له وإن علّمه الناس كلّهم وزاد فيه بعضهم، قلت: وإن مات؟ قال: وإن مات). المصدر: بصائر الدرجات ج 1 ص 5.
وقال (عليه السلام): (قرأت في كتاب علي (عليه السلام): إنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهال، لأنّ العلم كان قبل الجهل). المصدر: الكافي ج 1 ص 41.
وعن الحارث بن المغيرة، قال: ( لقيني أبو عبد الله (عليه السلام) في بعض طرق المدنية ليلاً فقال لي: يا حارث، فقلت: نعم، فقال: أما لتَحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، ثم مضى، قال: أتيته فاستأذنت عليه، فقلت: جعلت فداك لم قلت: لتحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، فقد دخلني من ذلك أمر عظيم؟
فقال لي: نعم، ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهونه ممّا يدخل علينا به الأذى والعيب عند الناس، أن تأتوه فتؤنّبوه وتعظوه، وتقولوا له قولاً بليغاً، فقلت له: إذاً لا يقبل منّا ولا يطيعنا، قال: فقال: إذاً فاهجروه عند ذلك واجتنبوا مجالسته). المصدر: السرائر ج 3 ص 598.
الإمام الصادق (عليه السلام) يفتح باب المناظرات:
من الأمور التي اعتمدها الإمام الصادق (عليه السلام) في حركته العلمية هي فتح باب المناظرات والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن.
وقد ربّى الإمام (عليه السلام) عدّة من أصحابه ممّن لهم الأهلية في الحوار والسجال على المناظرة ودعاهم إلى محاججة الآخرين.
ففي الحديث عن أحمد بن محمد بسنده عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ، قال(: قال لي: خاصموهم وبيّنوا لهم الهدى الذي أنتم عليه، وبيّنوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي (عليه السلام)، المصدر: بحار الانوار ج 10 ص 452 .
وعن أبان بن تغلب، قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): جالس أهل المدينة فإنّي أحب أن يرى في شيعتنا مثلك)، المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 622.
وقد أعطى الإمام الصادق (عليه السلام) أصحابه من المكانة في المناظرة بحيث كان يصرّح أنّ من يغلبهم فهو غالب له، ففي الحديث عن عن هشام بن سالم، قال: (كنا عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له، فلمّا دخل سلّم فأمره أبو عبد اللّه (عليه السلام) بالجلوس، ثم قال له: حاجتك أيّها الرجل؟
قال: بلغني أنّك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): في ما ذا؟
قال: في القرآن وقطعه وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): يا حمران دونك الرجل، فقال الرجل: إنّما أريدك أنت لا حمران، فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): إن غلبت حمران فقد غلبتني) ، المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 544.
وكان (عليه السلام) قد خصّص من صحابته من لهم الأهلية في خوض المناظرات والجدال ولم يسمح للجميع المناظرة مع الآخرين.
وروي عنه (عليه السلام) أنّه نهى رجلاً عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض أصحابه: (جعلت فداك، نهيت فلاناً عن الكلام وأمرت هذا به؟
فقال: هذا أبصر بالحجج، وأرفق منه)، المصدر: تصحيح اعتقادات الإمامية ص 71 .
بل إنّه (عليه السلام) كان يتابع مناظرات أصحابه ويأنس بها ويخبر بها سائر أصحابه ويشهد لذلك مارواه يونس بن يعقوب، قال: (كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيّار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
فقال هشام: يا ابن رسول الله إنّي أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء مُتزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟
فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟
فقال: يا بني أيّ شي هذا من السؤال؟
وشيء تراه كيف تسأل عنه؟
فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت: أجبني فيه، قال لي: سل. قلت: ألك عين؟
قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص، قلت: فلك أنف؟
قال: نعم قلت: فما تصنع به؟
قال: أشم به الرائحة قلت: ألك فم؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟
قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك اُذن؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟
قال: أميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة، قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك، قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟
قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟
قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟ قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثم التفت إلي، فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟
فقلت: لا، قال: أمن جلسائه؟
قلت: لا، قال: فمن أين أنت؟
قال: قلت: من أهل الكوفة، قال: فأنت إذا هو، ثم ضمّني إليه، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: يا هشام من علّمك هذا؟
قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى)، المصدر: الكافي ج 1 ص 413- 416.
وكان (عليه السلام) يُقيّم أصحابه في جودة المناظرة والأهلية في مجابهة آراء الآخرين ويبين لهم نقاط القوة والضعف لديهم.
يقول يونس بن يعقوب- في حديث الشامي الذي قصد الإمام الصادق (عليه السلام) في موسم الحج ليناظره فناظره أصحابه-: (ثم التفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ، تكسر باطلاً بباطل إلا أنّ باطلك أظهر، ثم التفت إلى قيس بن الماصر، فقال: تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، أنت والأحول قفازان حاذقان، قال يونس: فظننت والله أنّه يقول لهشام قريباً ممّا قال لهما، ثم قال: يا هشام لا تكاد تقع، تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلّم الناس، فاتق الزلّة، والشفاعة من ورائها إن شاء الله)، المصدر: الكافي ج 1 ص 173 .
وهو صريح في أنّه (عليه السلام) كان يقيّم مستويات أصحابه ويرشدهم إلى نقاط القوة والضعف لديهم حين المناظرة.
الامام الصادق يؤسس قواعد الأصول:
عمد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى تعليم الأصحاب بالقواعد الكلية المُمهدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.
ففي تعارض الأحاديث مثلاً أسس الإمام (عليه السلام) قواعد ميتنة لتمييز الوظيفة والضابطة للأخذ بالخبر.
يقول العلاء بن الفضيل: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يُغمى عليه يوماً إلى الليل ثم يفيق، قال: إن أفاق قبل غروب الشمس فعليه قضاء يومه هذا، فإن أغمي عليه أياماً ذوات عدد فليس عليه أن يقضي إلا آخر أيامه إن أفاق قبل غروب الشمس، وإلا فليس عليه قضاء)، المصدر: الاستبصار ج 1 ص 458 .
ومن القواعد المهمّة قاعدة رفع التعارض والتنافي بين الأخبار التي تعد من أهم القواعد المؤثّرة في استنباط الحكم الشرعي.
يقول عمر بن حنظلة: (سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما- إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ماحكم به أعدلهما وافقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال: فقال: يُنظر إلى ما كان رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه- إلى أن قال: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: يُنظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
قلت: جعلت فداك إن رأيت أن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟.
فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال: ينُظر إلى ما هم اليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)، المصدر: الكافي ج 1 ص 67- 68 .
وهناك العديد من القواعد الفقهية التي علمها الإمام الصادق (عليه السلام) تلامذته ومنها:
قاعدة سوق المسلمين التي لها مدخلية في كثير من الأحكام منها الطهارة والحلية، ومن أدلتها ما ورد عن الحلبي، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخفّاف التي تباع في السوق؟
فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميّت بعينه)، المصدر : تهذيب الاحكام ج 2 ص 234 .
ومنها قاعدة يد المسلم، يقول بكر بن حبيب: (سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الجبن وأنّه يصنع فيه الإنفحة، قال (عليه السلام): لا يصلح ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر بدرهم من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء)، المصدر: الكافي ج 1 ص 496 .
وغيرها من القواعد التي أسّسها الإمام الصادق (عليه السلام) وعلّمها تلامذته.
الامام الصادق (عليه السلام) يفتح باب الاجتهاد:
من الأمور التي تميّز بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عمّا سواها من المدارس الأخرى هو فتح باب الاجتهاد بمعناه الصحيح وهو: استنباط الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة بمعونة القواعد الأصولية المستدل على صحّتها وفقا للأُسس الموضوعة، ولذلك لا يدخل القياس، ولا الاستحسان، ولا الاعتماد على الرأي الشخصي في عملية الاستنباط، لبطلانها وخروجها بصورة موضوعية عن ذلك بعد تأكيد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على بطلانها.
وقبل أن نبيّن تأكيد الإمام الصادق (عليه السلام) على تعليم أصحابه وتصدّيهم للإفتاء ينبغي أن نوضّح مدى تحذيره وتشديده على أن لا يفتي الإنسان بغير علم ومن ذلك ما ورد عن المفضّل بن يزيد، قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم)، المصدر: الكافي ج 1 ص 42 .
وقال (عليه السلام): (إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم)، المصدر: الكافي ج 1 ص 42 .
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يحارب الذين يتصدّون للفتيا دون علم ويظهر لهم أنّهم مسؤولون عن فتواهم، وإلى ذلك يشير (سعيد بن أبي الخضيب البجلي)، قال: (كنت مع ابن أبي ليلى مزامله حتى جئنا إلى المدينة فبينا نحن في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ دخل جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، فقلت لابن أبي ليلى: تقوم بنا إليه؟
فقال: وما نصنع عنده؟
فقلت: نسائله ونحدّثه، فقال: قم، فقمنا إليه فسائلني عن نفسي وأهلي ثمَّ قال: من هذا معك؟
فقلت: ابن أبي ليلى قاضي المسلمين، فقال له: أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟
فقال: نعم. فقال: تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل هذا وتفرّق بين المرء وزوجه لا تخاف في ذلك أحدا؟
قال: نعم.
قال: فبأي شيء تقضي؟
قال: بما بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) وأبي بكر وعمر، قال: فبلغك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إنّ عليا أقضاكم؟
قال: نعم، قال: فكيف تقضي بغير قضاء علي (عليه السلام) وقد بلغك هذا؟ فما تقول: إذا جيء بأرض من فضة ثمَّ أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيدك وأوقفك بين يدي ربك وقال: يا رب إنّ هذا قضى بغير ما قضيت، قال: فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ثمَّ قال لي: التمس لنفسك زميلاً والله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً)، المصدر: الكافي ج 7 ص 408-409 .
وعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبى عبد اللَّه (عليه السلام) قال: (بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟
قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج.
إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدرى من هو، فأقول جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك.
فقال لي أبو عبد اللَّه: «اصنع كذا فإنّي كذا أصنع)، المصدر: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 524 .
وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)، المصدر: السرائر ج 2 524 .
الامام الصادق (عليه السلام) يؤدب اصحابه:
اكد الامام الصادق (عليه السلام) في حركته العلمية على تأديب اصحابه، حيث أدّب أصحابه فأحسن أدبهم، وربّاهم تربية صالحة بحيث صاروا زيناً لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وفخراً لها.
وقد تجسّد البعد التربوي في مجالين:
الأول: الوصايا التربوية التي كان الإمام الصادق (عليه السلام) يوصي بها أصحابه وهي إمّا وصايا عامّة لكافة الأصحاب ومن ذلك مانقله إسماعيل بن جابر، قال: إنّه (عليه السلام) كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
وعن يحيى بن العلاء، وإسحاق بن عمّار جميعاً، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قالا: (ما ودّعنا قط إلا أوصانا بخصلتين: عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، فإنّهما مفتاح الرزق)، المصدر: أمالي الطوسي ص 676 .
وهناك وصايا خاصة من الإمام (عليه السلام) لبعض أصحابه ومنها ما رواه سفيان الثوري، قال: (دخلت على الصادق (عليه السلام) ، فقلت له: أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك؟ قال (عليه السلام): وتحفظ يا سفيان؟
قلت: أجل يا ابن بنت رسول الله.
قال (عليه السلام): يا سفيان لا مرّوة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا إخاء لملوك، ولا خلّة لمختال، ولا سؤدد لسيء الخلق.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان ثق بالله تكن عارفاً، وارض بما قسمه لك تكن غنياً، صاحب بمثل
ما يصاحبونك به تزدد إيماناً، ولا تصاحب الفاجر فيعلّمك من فجوره، وشاور في أمرك الذين يخشون الله عزّ وجلّ.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان من أراد عزّاً بلا سلطان، وكثرة بلا إخوان، وهيبة بلا مال فلينتقل من ذلّ معاصي الله إلى عزّ طاعته.
ثم أمسك (عليه السلام) ، فقلت: يا ابن بنت رسول الله زدني؟
فقال (عليه السلام): يا سفيان أدّبني أبي (عليه السلام) بثلاث ونهاني عن ثلاث: فأمّا اللواتي أدّبني بهن فإنّه قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن لا يقيد ألفاظه يندم، ومن يدخل مداخل السوء يُتهم.
قلت: يا ابن بنت رسول الله فما الثلاث اللواتي نهاك عنهن؟
قال (عليه السلام): نهاني أن أصاحب حاسد نعمة، وشامتاً بمصيبة أوحامل نميمة)، المصدر: تحف العقول ص 376 .
إقرأ أيضا: أضواء على حياة الإمام الصادق (ع) .. (6) وفاة ابنه اسماعيل والخطابية
ترك الإمام الصادق (عليه السلام) من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان.
وليس هذا بغريب أبداً، فهو ينتمي إلى أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وخزّان العلم.
فهو وارث علوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيّه أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي ملأ الدنيا بعلومه وفضائله.
بهذا نختم الحلقة السابعة من النهضة العلمية للامام الصادق (عليه السلام) وسوف نتناول في الحلقة الثامنة إن شاء الله تعالى احتجاجاته ومناظراته (عليه السلام) .