يقول الرّواي: عندما دخل ركبُ السبايا إلى الكوفة وفزع أهلُها وخرجوا إلى الشوارع، أومأت السيدةُ زينب(عليها السلام) إلى النّاس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاسُ وسكنت الأجراس، عندها اندفعت بخطابها مع طمأنينة نفسٍ وثبات جأش، وشجاعةٍ حيدريّة، فقالت (صلوات الله عليها):
(الحمدُ لله والصّلاة على أبي محمّدٍ وآلِه الطيّبين الأخيار، أمّا بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل الخذل والغدر والختل والمكر، ألا فلا رقأت العبرةُ، ولا هدأت الزفرةُ، إنّما مَثَلُكم كمَثَلِ التي نقضتْ غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثاً، تتّخذون أيمانَكم دَخَلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصّلَفُ والنَّطفُ، والعُجبُ الشّنَفُ، وملقُ الإماء، وغمزُ الأعداء، أو كمرعىً على دمنةٍ، أو كفِضّةٍ على ملحودة، ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسُكُم أن سخطَ اللهُ عليكم، وفي العذاب أنتُم خالدون.
أتبكون وتنتحبون، إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فقد أبْلَيتُم بعارها ومَنيتُم بشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضون.. قُتِلَ سليلُ خاتم النبوّة، ومعدنِ الرّسالةِ، وسيّدُ شباب أهل الجنّة، وملاذُ خيرتكم، ومفزعُ نازلتكم، ومنارُ حجّتكم، ومدَرَةُ سنّتكم، ألا ساءَ ما تَزِرون، وبُعْداً لكم وسُحقاً، فلقد خاب السعيُ، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقةُ، وبُؤتُمْ بغَضَبٍ من الله، وضُرِبتْ عليكم الذلّةُ والمسكنة.
ويلَكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتُم؟ وأيّ كريمةٍ له أبرزتُم؟ وأيّ دمٍ له سفكتُم؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتُم؟ ولقد جئتُم بها صلعاءَ عنقاءَ سوداءَ فقماء، وفي بعضها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض، أو ملء السماء.
أفعجبتُم إنْ مطرت السماءُ دماً، ولَعذابُ الآخرة أخزى، وأنتم لا تُنصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البِدار، ولا يُخاف فوتُ الثار، وإنّ ربّكم لَبِالمرصاد).
ثمّ أنشأت تقول:
ماذا تقولون إذْ قال النبيُّ لكُمْ ** ماذا صنعتُمْ وأنتُمْ آخِرُ الأُمَمِ
فقال الإمامُ زينُ العابدين(عليه السلام): (يَا عَمَّةِ اسْكُتِي فَفِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاضِي اعْتِبَارٌ، وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٍ، إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْحَنِينَ لَا يَرُدَّانِ مَنْ قَدْ أَبَادَهُ الدَّهْرُ)، فسكتت الحوراء زينب(عليها السلام).