إبطاله (ع) لبِدَع المعتزلة
التقى بالإمام الصادق [عليه السلام] بمكة وفد من المعتزلة ضم أعلامهم ورؤوسهم، فكان من بينهم عمرو بن عبيد، و واصل بن عطاء، و حفص بن سالم، وغيرهم من أعيانهم، وذلك بعد قتل الوليد بن عبد الملك الاموي، واختلاف أهل الشام، وقد أجمع رأي المعتزلة على محمد بن عبد الله بن الحسن للخلافة الإسلامية، وتكلّموا بحضرة الإمام [ع] ، فقال لهم [ع] : إنكم قد أكثرتم عليَّ فأطلتم، فأسنِدوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلم بحججكم، وليوجز.
فأسندوا أمرهم إلى (عمرو بن عبيد)، فأبلغ وأطال، فكان فيما قال أن قال: قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة، ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط (عليه السلام) فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان منا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغية ونرده إلى الحق وأهله، ثم إلتفت إلى الإمام [ع] ، وقال له: وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فإنه لا غنا بنا عن مثلك، لفضلك ولكثرة شيعتك.
فلما فرغ قال أبو عبد الله [ع] : أكلكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا: نعم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي [ص] ثم قال: إنما نسخط إذا عُصِيَ الله فإذا أطيع الله رضينا أخبرني يا عمرو لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة، فقيل لك: (ولها من شئت) من كنت تولي؟قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
قال: بين كلهم؟ قال: نعم.
فقال: بين فقهائهم وخيارهم؟ قال: نعم.
قال: قريش وغيرهم؟ قال: العرب والعجم.
قال: فأخبرني يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما؟ قال: أتولاهما.
قال: يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما، وإن كنت تتولاهما فقد خالفتها، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا، ثم جعلهاعمر شورى بين ستة، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش، ثم أوصى الناس فيهم بشئ ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك. قال: وما صنع؟
قال: أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه وليس له من الأمر شئ، وأوصى من كان بحضرة من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوه أن يضرب أعناق الستة جميعا وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين، افترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟ قالوا: لا.
قال: يا عمرو دع ذا، أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه، ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف عليكم منها رجلان، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية، كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيهم بسيرة رسول الله [ص] في المشركين في الجزية؟ قالوا: نعم.
قال: فتصنعون ماذا؟ قالوا: ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
قال: فإن كانوا مجوسا، وأهل كتاب، وعبدة النيران والبهائم وليسوا بأهل كتاب؟ قالوا: سواء.
قال: فأخبرني عن القرآن أتقرأونه؟ قال: نعم.
قال: اقرأ ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29)
قال: فاستثنى الله واشترط من الذين أوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء. قال: نعم.
قال [ع] : عمن أخذت هذا؟ قال: سمعت الناس يقولونه.
قال: فدع ذا، فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟ قال: اخرج الخمس وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها.
قال: تقسمه بين جميع من قاتل عليها؟ قال: نعم.
قال: فقد خالفت رسول الله [ص] في فعله وفي سيرته، وبيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله [ص] إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم، وأن لا يهاجروا، على أنه إن دهمه من عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب، وأنت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله [ص] في سيرته في المشركين، دع ذا، ما تقول في الصدقة؟ قال: فقرأ عليه هذه الآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ (التوبة: 60) إلى آخرها.
قال: نعم فكيف تقسّم بينهم؟ قال: أقسمها على ثمانية أجزاء، فأعطي كل جزء من الثمانية جزء.
فقال [ع] : إن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف. قال: نعم.
قال: وما تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال: نعم.
قال: فخالفت رسول الله [ص] في كل ما أتى به، كان رسول الله [ص] يُقسّم صدقة البوادي في أهل البوادي، وصدقة الحضر في أهل الحضر، ولا يقسم بينهم بالسوية إنما يُقسّمه قدر ما يحضره منهم، وعلى قدر ما يحضره فإن كان في نفسك شئ مما قلت لك فإن فقهاء أهل المدينة، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول الله [ص] كذا كان يصنع، ثم أقبل على عمرو وقال: اتق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط! فاتقوا الله، فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بـكتاب الله وسنة رسوله أن رسول الله [ص] قال: «من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف».
في الحلقة العشرة من (قبسات من حياة الامام جعفر الصادق) نتناول إن شاء الله تصدي الإمام (ع) لتيار الغلاة.