لماذا يوقد أهالي كربلاء الفوانيس في شهر محرم الحرام؟

الثلاثاء 25 أغسطس 2020 - 09:39 بتوقيت غرينتش
لماذا يوقد أهالي كربلاء الفوانيس في شهر محرم الحرام؟

عاشوراء_الكوثر: بألوان براقة وزجاج منقوش مميز، تبهر الفوانيس التي توقد مطلع شهر محرم الحرام من كل عام انظار الوافدين الى مدينة كربلاء المقدسة للمشاركة في مراسيم احياء ذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام، التي يحرص أصحاب المواكب على وضعها على شكل صفوف في التكايا والمجالس الحسينية التي تنتشر في ازقة المدينة وساحاتها بشكل ملفت.

ويعكف اصحاب التكايا والمواكب الحسينية على عرض المئات من الفوانيس الزجاجية النادرة، التي يعود صناعة معظمها الى تواريخ قديمة قد تتجاوز المائة عام، سيما الفوانيس الروسية والتركية والهندية، ويستخدم الزيت او النفط في انارتها.
تلك الفوانيس بات من المستحيل مشاهدتها بهذه الكمية في معظم ارجاء العالم، بعد ان اندثرت صناعتها واصبحت سلعة موغلة في القدم والتاريخ.
ومدينة كربلاء احدى أبرز المدن الاسلامية المقدسة في العالم، حيث يتوافد عليها ملايين الزوار من داخل وخارج العراق، ويحيا في وسطها مراسيم عاشوراء الشهيرة، حيث تنصب سرادق العزاء الحسيني والمواكب والتكايا الخاصة بهذه المناسبة.
الحاج “كريم ميري” كفيل موكب عزاء العباسية الشرقية العريق يقول ونشوة الفخر بادية على ثناياه، ان “نشر هذه الفوانيس أصبح تقليد سنوي موروث يحرص اهالي المواكب على اقامته في الايام الاولى من شهر محرم الحرام“.
فمنذ نعومة اضفاره شهد اهالي المواكب الحسينية في كربلاء عموما، ومؤسسي موكب العباسية الشرقية على الخصوص يحرصون على اضاءة هذه الفوانيس البراقة في هذا الموعد من كل عام حسب قوله.
والحاج ميري ذو الاثنين والسبعين عاما، شارك، دون كلل او ملل، في تنظيف وإدامة ونصب آلاف الفوانيس الملونة في الموكب الحسيني طيلة سنين عمره الطويل، معتبرا ان ذلك رمزا من شعائر مدينة كربلاء الخاصة بأحياء ذكرى عاشوراء المقدسة لدى المسلمين الشيعة.
ويسترسل قائلا، “هذه الفوانيس صنعت قبل ولادتي بعقود، وهي نفيسة جدا وثمنها لا يقدر، فمعظمها تعود الى حقب وحضارات تاريخية قديمة، فمنها الروسية المنشأ ومنها العثمانية، والهندية والفارسية ايضا“.
ويظهر منقوشا على تلك الفوانيس المتعددة الالوان، زخرفة نباتية تتوسطها صورا لبعض قياصرة روسيا او سلطانين الدولة العثمانية او شاه إيران حيث كانت تصنع في تلك الدول.
ويرى اهالي مدينة كربلاء المقدسة هذا التقليد او الموروث الشعبي والديني الى رمزية خاصة بقضية الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام، ابن بنت الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كونه حل في هذه المدينة عام 61 للهجرة، واستشهد بعد عشرة ايام من ذلك على يد جنود يزيد ابن معاوية، في واقعة الطف الشهيرة.
الانارة البيضاء والحمراء والتعتيم
ولهذه الفوانيس حكاية خاصة لا يدركها الا الضاربون في القدم من اهالي كربلاء، اذ تنار الفوانيس خلال الايام التسع الاولى من محرم بألوان بيضاء، فيما تضاء في ليلة عاشوراء باللون الاحمر، وتطفئ انارتها بشكل تام في العاشر من محرم الحرام يوم استشهاد الامام الحسين عليه السلام، اذ تعتم المدينة القديمة بشكل شبه تام بعد إطفاء الانارة، كتعبير عن الحداد والحزن على الفاجعة.
ويعزو المعمر الحاج حميد مجيد الخالدي ذلك التقليد الى عوامل تاريخية ترتبط ارتباطا وثيقا بمناسبة عاشوراء، فيقول، “تضاء الفوانيس في الاول من شهر محرم حتى التاسع منه بألوان زاهية بيضاء في دلالة على تشرف ارض كربلاء بحلول قافلة الامام الحسين عليه السلام واقامته في كربلاء المقدسة“.
ويضيف، “في ليلة العاشر من المحرم اليوم الذي شهد مقتل الامام الحسين عليه السلام تستبدل الفوانيس الملونة والبيضاء بفوانيس حمراء، كدلالة على دموية المعركة الجائرة التي اودت الى استشهاد ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم“.
ويتابع الخالدي، “في الليلة اللاحقة يتم تعتيم المدينة بعد ان تطفئ جميع الفوانيس تعبيرا عن الحزن والحداد على مصاب اهل البيت عليه السلام“.
ويستدرك الخالدي، “في الماضي كانت الانارة حتى الخمسينات من القرن الماضي تعتمد على المشاعل، مما كان يضفي مظهرا ملحوظا في كربلاء بعد اطفاء الفوانيس“.
ويختتم آثار الحسرة بادية عليه، “انتشار المصابيح الكهربائية سرقت من هذا الموروث الالق والبروز كما كان في السابق“.
هذا الموروث دفع الاعلامي ضياء قاسم خلال حديثه لدعوة السلطات المحلية في كربلاء المقدسة الى احياء هذا الموروث التراثي عبر توحيد انارة مركز المدينة القديمة التي تحتضن مراقد الائمة والشهداء مع انارة المواكب الحسينية.
فيقول قاسم، “من الافضل ان تبادر السلطات المعنية الى المشاركة في هذا الموروث وتعميمه بشكل رسمي“. مبينا، “من المستحسن ان تطابق انارة الشوارع مع انارة المواكب سيما في يوم التاسع من شهر محرم الذي يشهد الانارة الحمراء، فضلا عن التعتيم الليلي في يوم عاشوراء“.
وللحكاية بقية
لهذه الفوانيس حكاية تتصف بالغرابة ايضا، اذ كانت تعد رمزا دينيا محظورا من قبل سلطات حزب البعث الصدامي الذي هيمن على السلطة في العراق لمدة تتجاوز الثلاثين عاما، اذ كانت عرضة للتدمير والتلف في حال ضبطها من قبل رجال الامن السابق.
فبحسب الحاج محمد علي الصائغ منعت السلطات انذاك اقامة الشعائر الحسينية لإجندات سياسية مشبوهة، وكانت تعاقب بالسجن كل من يتبنى اقامة التكايا او مواكب العزاء.
وخوفا من الوشاية شيد الكثير ممن كانوا موكلين بإخفاء الفوانيس التراثية غرفا مغلقة في منازلهم بشكل محكم بعيدة عن انظار الضيوف والزوار، فيقول الصائغ، “الغيت بابا لغرفة في منزلي تحوي المئات من الفوانيس الخاصة بالموكب، وشيدت جدارا قبل ان اطليه بصورة تخفي وجود معالم الغرفة“.
وبلغة يشوبها الم الماضي يردف الصائغ قائلا، “شيدت الجدار في عام 1990 وازلته عام 2003 بعد زوال النظام الديكتاتوري السابق“.
ويضيف، “لم اصدق عيناي وانا ارى الفوانيس محفوظة كما هي طيلة تلك السنين الطويلة دون أي اضرار تذكر“.
في حين يكشف الحاج ميري ان أحد تجار السلع التراثية عرض عليه مبلغا ماليا ضخما لقاء مقايضته اياه أحد الفوانيس الروسية العريقة، فيقول، “تقدم الي وافد على المدينة ينشط في الاتجار بالسلع الاثرية والتراثية عارضا لي مبلغ عشرين مليون دينار لقاء فانوس يعود للحقبة القيصرية الا انني رفضت بشدة“.
خاتما حديثه بقول قاطع، “هذه الفوانيس باتت ملكا للموكب، وقد ورثناها عن ابائنا وأجدادنا وسنورثها ابناءنا لتكون تراثا يتنقل بين الأجيال، ولن تخالجنا فكرة بيع قطعة واحدة مهما كان الثمن“.

المصدر: الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة