كما عرف عن كارلايل موقفه الإيجابي المنصف عن الدِّين الإسلامي والنبيّ محمّد (صلى الله عليه و آله) الذي يعده من أبرز الأبطال في التاريخ ويخصص له ثاني فصول كتابه الذائع الصيت "الأبطال".
وُلِد هذا المفكّر المتعمق في قرية اكلفكان أناندال بجنوب اسكتلندا عام 1795م، وعاش ستة وثمانين عاماً قضاها في وضع التآليف القيّمة بين فلسفة وتاريخ وترجمة ومواعظ وحكمة. وأشهر مؤلفاته كتاب "الأبطال" أو "في الأبطال وتقديس البطل وعنصر البطولة في التاريخ" الذي وضعه سنة 1841م وكتاب "الثورة الفرنسية" 1837م وكتاب "الماضي والحاضر" وكتاب "سارتور رزارتوس" أو "فلسفة الملابس" و"سيرة كرومويل" و"تاريخ فريدريك ملك بروسيا".
يصنف كارلايل الأبطال في كتابه إلى صور مختلفة يظهرون بها وحييون بها أُممهم فمنهم البطل في صورة إله ومثاله المسيح، والبطل في صورة نبيّ ونموذجه الرسول محمّد (ص) وهنالك الأبطال في صورة شعراء كشكسبير ودانتي.
- إعجابه ورأيه بالنبيّ محمّد (ص)
انبهر كارلايل أشد الانبهار بشخصيته نبيّ الإسلام واعتبره مثالاً متكاملاً لعلو الهمّة والطبع الإنساني الرؤوف وتجسيداً لكلّ الفضائل الأخلاقية. ودافع عند دفاع عارف بدقائق التاريخ منتقداً بشدة المفترين الغربيين الذين لم يألوا جهداً في تسقيط هذا الصرح المنيف ووصمه بما يعاكس الواقع تماماً.
يقول في فصل "البطل في صورة رسول": "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يُظن من أنّ دين الإسلام كذب وأنّ محمّداً خدّاع مزوّر. وآن لنا أن نحارب ما يُشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فأنّ الرسالة التي أداها ذلك الرسول مازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا".
- ردوده ضد المفترين على النبيّ
ويحمل ببسالة على متهمي النبيّ (ص) بالكذب فيقول: "أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة. فعلى مَن أراد أن يبلغ منزلةً ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً البته من أقوال أولئك السفهاء. فإنّها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خشب القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعلّ العالم لم يرقط رأياً أكفر من هذا وألأم، وهل رأيتم قط معشر الأخوان أنّ رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً عجباً. والله إنّ الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب".
ويؤكّد دفاعه في موضع آخر: "وعلى هذا فلسنا نعد محمّداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرسالة التي أداها إلّا حقّ صراحاً وما كلمته إلّا صوت صادر من العالم المجهول. كلا ما محمّد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع. ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذه حقيقة تدفع كلّ باطل وتدحض حجة القوم الكافرين".
- جوانب من حياة الرسول
ويستعرض في كتابه مراحل حياته الرسول الأكرم، وبعد جملة ما يسجله: "ولوحظ عليه منذ فتائه أنّه كان شاباً مفكّراً وقد سمّاه رفاقه الأمين ـ رجل الصدق والوفاء ـ الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لاحظوا أنّ ما من كلمة تخرج من فيه إلّا وفيها حكمة بليغة وأنّي لا أعرف عنه أنّه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة لا يتناول غرضاً فيتركه إلّا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وأبان حجته واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلّا فلا. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً براً رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجد مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب ليّن العريكة جم البِشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازج وداعب وكان على العموم يضئ وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق".
ويستدل على صدق هذا الرسول الكريم وأصالة دعوته بمختلف الأدلة والأساليب، ومن ذلك قوله: "ومما يبطل دعوى القائلين أنّ محمّداً لم يكن صادقاً في رسالته، بل كان ملفقاً مزوّراً، إنّه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوياً مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة. ولمّا يك إلّا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية".
ويستطرد المؤرخ الكبير في استعراض مشاهد حياة الرسول الحافلة بالكفاح والضنى والدعوة إلى الحقّ، ويشير إلى اجتماع عشيرته في بيته ومصارحتهم إياهم بالرسالة التي بُعث بها ودعوتهم إلى التصديق والإيمان به والدخول في الدِّين الجديد وعدم استجابتهم له إلّا ربيبه الأثير عليّ بن أبي طالب: "وبينما القوم صامتون حيرةً ودهشةً وثب عليٌّ وكان غلاماً في السادسة عشرة، وكان قد غاظه سكوت الجماعة، فصاح في أحدِّ لهجة أنّه ذاك النصير والظهير. ولا يحتمل أنّ القوم كانوا منابذين محمّداً ومعاوية وكلّهم قرابته وفيهم أبو طالب عم محمّد ووالد عليّ، ولكن رؤية رجل كهل أُمي يعينه غلام في السادسة عشر يقومان في وجه العالم بأسره كانت فما يدعو إلى العجب المضحك، فانفضَّ القوم ضاحكين، ولكن الأمر لم يك بالمضحك بل كان نهاية في الجد والخطر".
- إشادته بالإمام عليّ (عليه السلام)
ويعرّج كارلايل إلى شيء من سيرة عليّ بن أبي طالب (ع) وخصاله فيقول مشيداً بهذا البطل الإسلامي الفذ: "أمّا عليّ فلا يسعنا إلّا أن نحبّه ونتعشقه فإنّه فتىً شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبراً ويتلظّى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنّها شجاعة مخروجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قُتِلَ بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه بشدّة عدله حتى حسب كلّ إنسان عادلاً مثله، وقال قبل موته حينما أومر في قاتله: "إن أعيش فالأمر إليَّ وإن متُّ فالأمر لكم فإن آثرتم أن تقتصوا فضربه بضربة وإن تعفوا أقرب إلى التقوى".
- اتهامات أخرى يرد عليها كارلايل
ويواصل منافحته عن دينٍ وجد فيه مجمعاً للقيم الخيّرة، ورأى تحاملاً شرساً عليه من الغربيين بكلّ ما يجافي الواقع والموضوعية، فكتب: "قيل وكتب كثيراً في شهوانية الدِّين الإسلامي، وأرى أنّ كلّ ما قيل وكُتِبَ جوراً وظلماً، فإنّ الذي أباحه محمّد ممّا تحرمه المسيحية لم يكن من تلقاء نفسه وإنما كان جارياً متبعاً لدى العرب من قديم الأزل، وقد قلّل محمّد هذه الأشياء جهده وجعل عليها من الحدود ما كان في إمكانه أن يجعل الدِّين المحمدي بعد ذلك ليس بالسهل ولا بالهيّن وكيف ومعه كلّ ما تعلمون من الصوم والوضوء والقواعد الصعبة الشديدة وإقامة الصلاة خمساً في اليوم والحرمان من الخمر، وليس كما يزعمون كان نجاح الإسلام وقبول الناس إياه لسهولته لأنّه من أفحش الطعن على بني آدم والقدح في أعراضهم أن يتهموا بأنّ الباعث لهم على محاولة الجلائل وإتيان الجسائم هو طلب الراحة واللذة".
ويتابع قوله: "ما كان محمّد أخا شهوات برغم ما اتّهم به ظلماً وعدواناً. وشدّ ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً لا همَّ إلّا قضاء مآربه من الملاذ، كلا من أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وأحواله".
وتتفجر العاطفة من يراعه حيث يكتب: "وإنّي لأحبّ محمّداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعوّل إلّا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبراً ولكنّه لم يكن ذليلاً ضرعاً. فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة".
ويعبّر عن صادق رأيه في جانب من جوانب الدِّين الإسلامي فيقول: "وفي الإسلام خلّة أراها من أشرف الخلال وأجلّها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على صدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض والناس في الإسلام سواء".
المصدر: موسسه البلاغ