هي ليست فرقة بالمعنى المتعارف للفرق والطوائف بقدر ما هي أفكار شيطانية يطلقها شياطين البشر وجهلتهم فيتبعها من كان قلبه أعمى وأغلق عليه كلّ منافذ النور وانجرَّ وراء شهوته وهواه فتعلَّق بالمادة فأخذ يوجد لنفسه المبررات والعلل، وجرّته شهواته إلى أن ينكر الإله الخالق البارئ وينكر الحساب ويؤمن بأن أمّه هي الطبيعة وأنَّ هذا الكون هو وليد الصدفة وغير ذلك من الأفكار الزائفة، فالحياة في نظرهم ليس وراءها محيي ومبدي بل هي تسير وفقًا لنظام أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلك إلا الدهر.
ولهذا، فالدهرية تمثل أصل المذاهب الإلحادية في التاريخ البشري، فكلُّ من اعتقد بأنَّ الزمان قديم أو المادة والكون، وأنكر الألوهية والخالقية والبعث والحساب واللطف والعناية لإلهية فهو ملحد ودهري.
وقد تتفرق الأطروحات والعبائر والصياغات عند هؤلاء ولكنَّها تجتمع على حقيقة واحدة وهي الإنكار للخالق المبدئ المعيد وإنكار البعث والحساب، فتجد منهم من يقول بالتناسخ وحلول الأرواح في أبدان أخرى بحسب حالها من سعادة أو شقاء...، ومنهم من يقول بتدبير الكواكب والأيام... لشؤون الكون والكائنات، ومقولات أخرى كلّها تلتقي في النتيجة وإن تغايرت المسميات.
وعلى هذا التقدير يمكن أن تلحق بها أفكار الفلسفة الوضعية والماركسية باعتبارها الصورة الحديثة للدهرية، فهي تصبّ كلّ طاقاتها على المادة وإنكار عالم الغيب والخالقية...
وكذلك يمكن أن تلحق بها تيارات العلمانية، فهي في الواقع ترفع شعارات تتستر وراءها تجنبًا لإثارة الحساسية الدينية التي قد تثار ضد هذه الأفكار في المجتمع الإسلامي الذي يمثِّل الهدف الأصيل لهجمة الفكر الإلحادي، ولذلك تجدهم يرفعون شعارات من قبيل (الديمقراطية العقلانية) و (العلمانية) و (العقلانية) و (الحداثة)... الخ من الأفكار المنتهية إلى التشكيك ورفض المطلق.
فالعقلانية التي يطرحونها ليست من قبيل إعمال الفكر في إطار المنهج الإلهي بل هي الخروج على هذا المنهج وإيجاد منهج خاص مقابل يقوم على أساس المعطيات المادية المحيطة وإنكار عالم الغيب أو عدم الأخذ به -في الوقت الذي امتدح فيه الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾،فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال- وباتخاذها أساليب إثارة الشبهات وإطلاق الشعارات الخدَّاعة تتمكن من التأثير على إيمان البسطاء والسذّج من الناس متخفية وراء المصطلحات وترويج الأضاليل وإنفاذها إلى عقولهم وأذهانهم، كطرح الديمقراطية والحريَّة كأساليب إدارية سياسية في مقابل الدين وتصويره بأنَّه عقبة وقيد أمام الانطلاق والتحرّر والتقدّم، وتقديم العلمانية على أساس أنَّها منظومة فكرية وممارسات علمية عقلانية تساهم في منع الصراعات الاجتماعية والقضاء على الطبقية والطائفية السياسية والاجتماعية وإخراج المجتمع من دائرة التخلّف وفصل الدين على السياسة وعن سلطة التشريع، وبذلك تكون تحررًا من المطلق والغيب، وبها تعود إلى حقيقتها الإلحادية الدهرية، فلا وجود للديني فيها ولا للعناية الخالقية. وهؤلاء بالرغم من استخدامهم للغة حديثة وكم هائل من المصطلحات إلا أنَّ جلَّ نشاطهم هو إعادة الحياة لأفكار الملاحدة القدماء ولكن بلغة وأسلوب عصري يحاكي تطور الحياة، ولكن أين الدليل المنطقي على صدق المدعى، فقد أجاب القرآن بأنَّهم لا يملكون إلا الظنّ والتخمين والتخرصات، فقال تعالى: ﴿ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.
و قيل أيضا :
أن الدّهريَّة هم من أشار إليهم وإلى عقيدتهم القرآن الكريم بقوله ﴿...مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ...﴾.
وقد روى الشَّيخ الكليني في الكافي بسنده إلى أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (ع) قال قلت له أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزَّ وجلّ؟ فقال (ع) الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه...، إلى أن قال (ع) فأمَّا كفر الجحود فهو الجحود بالرُّبوبيَّة، وهو قول مَن يقول لا ربّ ولا جنَّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزَّنادقة يُقال لهم الدَّهريَّة وهمَّ الذين يقولون ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ﴾ وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثَبُّت ولا تحقيق(1).
ومنشأ تسميتهم بالدَّهريَّة هو دعواهم أنَّ الدهر هو المدبِّر للأمور وأنَّ الجالب للحوادث هو الدَّهر، وقد أشارت الآية لذلك ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ﴾.
وقيل إنَّ منشأ تسميتهم بذلك هو دعواهم بقاء الدَّهر وأزليَّته وأنَّ الدهر دائرٌ لا أول له ولا آخر(2).
ومن أبرز اعتقاداتهم كما أفاد ذلك اليعقوبي في تاريخه أنَّه لا دين ولا ربَّ ولا رسول ولا كتاب ولا معاد ولا جزاء بخيرٍ ولا بِشرٍ، ولا ابتداء لشيء ولا انقضاء ولا حدوث ولا عطب، وإنَّما حدوث ما سُمّي حدثا تركيبهُ بعد الافتراق وعطبهُ تفريقه بعد الاجتماع(3).
ويقولون أنَّ كلّ ما في الكون هو بفعل الدَّهر، وأنَّه ما من خالق ومدبِّرٍ لهذا الكون سوى الدهر، وعليه فكلُّ مَن يعتقد بأنَّ نظام الكون وظواهره وقوانينه هي بفعل الطَّبيعة وليس ثّمَّة من إلهٍ خالق ومدبِّر لهذا الكون وواضعٍ لقوانينه فهو ممَّن تصحّ نسبته للدَّهريَّة.(4)
الهوامش:
1-الكافي- الشيخ الكليني- ج2 ص389.
2-الاحتجاج- الشيخ الطبرسي- ج1 ص20،16، بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج54 ص69، تاريخ اليعقوبي- اليعقوبي- ج1 ص149.
3-تاريخ اليعقوبي- اليعقوبي- ج1 ص149.
4-للمزيد حول هذا لموضوع يمكن مراجعة:
تفسير الأمثل ج 16 ص139-142
والتفاسير الأخرى بالإضافة إلى شروحات نهج البلاغة في خصوص الخطب المتعلقة بإثبات الوجود والتوحيد... والكتب العقائدية، وكتب الملل والنحل أو الفرق والأفكار الفلسفية.
المصدر:حوزة الهدى للدراسات الإسلامية و موقع هدى القر آن الإلكتروني