آية الله السيد محمد حسين فضل الله
في هذه الخطبة كان أمير المؤمنين (ع) يستهدف إثارة الوعي نحو الوحدة بين المسلمين، ويحذِّر من كلِّ حركةٍ للفرقة، ويدعو المسلمين في زمانه وفي امتدادات الأزمنة، إلى أن يدرسوا التاريخ؛ تاريخ الأمم الّتي توحَّدت فرفعها الله، وتفرَّقت فخفضها الله. وعليٌّ(ع) عندما يتحدَّث عن الخطوط العامَّة للأمَّة في ما يرفع مستواها، لا يتحدَّث عن مرحلته خاصَّةً، بل عن الأمَّةِ كلِّها في الزَّمنِ كلِّه، لأنَّ عليّاً(ع) كان إمام الحقيقة الَّتي لا يختلفُ فيها زمنٌ عن زمن، فهي تفرض نفسها في نتائجها الإيجابيَّة على الزَّمنِ كلِّه، وعلى الإنسانِ كلِّه.
نموذج الأمَّة الموحَّدة
ويتابع الإمام حديثه، فيقول: "فانظروا كيف كانوا حيثُ كانت الأمْلاء مجتمعةً"، والأملاء جمع ملأ، والمراد بها الجماعات من النَّاس، أي كيف كانت هذه الجماعات تلتقي مع بعضها البعض على القضايا المشتركة، الَّتي تترك تأثيراتها الإيجابيَّة فيهم جميعاً.
"والأهواء متَّفقة"، فلم يكن أحدٌ من هذه الجماعة يملك هوىً ذاتيّاً يمكن أن ينطلق من خلالِ حالةٍ غريزيَّة أو حالة شهوانيَّة أو حالة ذاتيَّة، بل كان هوى الفرد هو هوى الجماعة، ولذلك كان هوى كلّ شخصٍ يلتقي بهوى الشَّخص الآخر، لأنّه يشعر بأنَّ كلّ ما يتمنَّاه الشَّخص يدخل في حساب ما يمكن أن يبني المجتمع الَّذي تناله بركاته. "والقلوب معتدلة"، فليس هناك قلبٌ يميل إلى جهة الشّرّ، أو إلى ما يؤدِّي إلى نتائج سيِّئة على المجتمع، أو إلى أيّ موقعٍ يضرّ بالمجتمع ويبعد عن خطّ الاستقامة.
"والأيدي مترادفة"، أي كانت الأيدي تتلاقى مع بعضها البعض، ويعاون بعضها بعضاً. ولذلك، كان ذلك المجتمع يحقِّق النَّتائج الكبيرة نتيجةً لتلاقي الجهود نحو الهدف الواحد، حيثُ لا تستطيع اليد الواحدة أن تحقِّق ذلك كلّه. "والسّيوف متناصرة"، في مواجهة الأعداء والتحدّيات، فليس هناك سيفٌ يخذل أُمَّته، ويخذل المجتمع، ويوجَّه إلى الدّاخل.
"والبصائر نافذة"، البصائر جمع بصيرة، وهي تمثِّل ما يختزنه الإنسان من الوعي الَّذي ينفتح على الرأي الصَّائب وعلى الفكر النَّاضج.
"والعزائم واحدة"، بحيث ينطلق المجتمع كلّه من خلال إرادة الانتصار والتقدّم، وعزيمة الانطلاق إلى القضايا الكبرى.
ثم يشرح الإمام(ع) طبيعة هذا النّوع من علاقات هذا المجتمع ببعضه البعض في ما يؤدِّي إلى وحدته، وما ينتج من ذلك، فيقول:
"ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين؟"، أي اقرأوا تاريخهم، فهم كانوا الأرباب، بمعنى السّادات، ولا يقصد الآلهة. قال تعالى في حكاية قول يوسف(ع):{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (1) ، أي ارجع إلى سيّدك. فالإمام(ع) يقول إنَّهم كانوا سادات، وكانت لهم السّلطة من خلال هذه الوحدة الَّتي تجمعهم، "وملوكاً على رقاب العالمين"، فاستطاعوا من خلال هذه القوَّة الاجتماعيَّة، أن يملكوا المواقع المتنوّعة في حياة النّاس، فقبلهم النَّاس أن يملكوا أمرهم، وأن يسيطروا عليهم، وأن ينظّموا لهم حياتهم.
وقوع التّشتّت والفرقة
ولكن كيف صارت أحوالهم؟ وكيف تغيّرت الصّورة؟ وكيف انقلبت الأحوال؟
"فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة"، وأصبح كلُّ واحد يعيش أوضاعه الخاصَّة، وبشكلٍ منفصلٍ عن الآخر، فغفلوا بذلك عن القضايا الكُبرى، فانفرط عقدهم.
"وتشتَّتت الألفة"، فتمزَّقت الألفة الرّوحيَّة الَّتي يألف فيها أحدهم الآخر، وينفتح بالحبّ عليه، "واختلفت الكلمة والأفئدة"، فأصبح لكلّ فريقٍ كلمةٌ مختلفة عمّا ينطلق به الفريقُ الآخر، بحيث تعدَّدت الاتجاهات، وانطلقت القلوب لتنفصل عن بعضها البعض، فلا ينفتح قلبٌ على قلب، بل ربما تنفتح القلوب على الحقد والعداوة والبغضاء. "وتشعّبوا مختلفين"، فأصبحوا شعوباً مختلفة، فكلٌّ منهم يمثّل موقعاً مستقلاً عن الموقع الآخر، تماماً كما لو لم تكن هناك علاقة فيما بينهم، "وتفرَّقوا متحازبين"، فأصبحوا كما قال تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .(2)
"قد خلع الله عنهم لباس كرامته"، فعندما صاروا إلى هذا الواقع، وانحدروا فيه، خلع الله عنهم لباس كرامته، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أجرى الأمور في ما يُكرم به النّاس أو في ما يُذلّهم به، من خلال ما يمارسونه من أفعال ومن أخلاق ومن علاقات، ونحن نقرأ ـ في هذا المجال ـ قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (3)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4)، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (5)، فإنَّ الله لم يخلع عنهم لباس كرامته بشكلٍ مباشر، ولكن من خلال ما عاشوه في طريقة إدارتهم للواقع.
"وسلبهم غضارة نعمته"، الغضارة هي السّعة، فكانوا في سِعة النّعمةَ وازدهارها، فسُلبوها، فأصبحوا في ضيقٍ منها، "وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين"، وتحوَّل هذا الواقع إلى أن يكون درساً وعبرةً لمن يريد الاعتبار في التّاريخ للأمم الآتية، حتى إذا درسوا أسباب هذا الانحدار بعد ذلك الارتفاع، استطاعوا أن يرتِّبوا أوضاعهم وأمورهم بما لا يصل إلى ما وصل أولئك إليه.
مظاهر التّقهقر والسّقوط
ثم ينطلق الإمام(ع) ليتحدَّث عن الواقع العربيّ، فيقول: "فاعتبروا بحال وُلْدِ إسماعيل، وبني إسحاق، وبني إسرائيل، عليهم السَّلام"، هؤلاء الَّذين اختلفت أوضاعهم وأمورهم بحسب طبيعة سلوكهم العمليّ، فيقول(ع): "فما أشدَّ اعتدال الأحوال!"، بمعنى تناسبها، فلو أردنا أن ندرس أحوالهم وندرس أحوالكم، لرأينا هناك تناسباً وتشابهاً بين أحوالكم في هذا الاهتزاز الَّذي تعيشون فيه، وأحوالهم، "وأقرب اشتباه الأمثال!"، أي تشابه الأمثال، فإنَّ التاريخ يعيد نفسه، فالأقربون في الحاضر، يشبهون في خصائصهم وصفاتهم من كان قبلهم في الماضي.
"تأمَّلوا أمرهم"، وهنا يعودُ الإمام(ع) ليدعوهم إلى دراسة واقع العرب ودراسة واقع اليهود، فلا تقرأوا التَّاريخ قراءةً ساذجةً كما يقرأ الإنسان ما يثير في نفسه الملهاة، ولكن اقرأوه وادرسوه دراسةً علميَّةً عميقة، تحاولون من خلالها أن تأخذوا السُّنن الّتي تحكم المجتمعات في عالم ارتفاعها وهبوطها، وفي عالم حريّتها وعبوديّتها، "في حال تشتّتهم وتفرّقهم"، عندما تفرّقوا عشائر وقبائل، كلّ قبيلةٍ تستقلّ بنفسها عن القبيلة الأخرى، وكلّ عشيرةٍ تحارب أو تتعصَّب ضدّ العشيرة الأخرى.
"ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم"، حيث كان العرب في الجزيرة آنذاك يخضعون للفرس والرّوم، وكان الفرس والرّوم يتجاذبون السَّيطرة على الواقع العربيّ، وربما كان اليهود أيضاً يخضعون للقياصرة والأكاسرة في مواقعهم الَّتي يعيشون فيها، "يحتازونهم"، أي يبعدونهم "عن ريف الآفاق"، أي الأراضي الخصبة، باعتبار أنَّ الرّيف هو موضع الخصب فيه، "وبحر العراق"، الَّذي يشتمل على دجلة والفرات، حيث الماء الَّذي يحتاجه الناس في زراعتهم وريّهم.
"وخُضرةِ الدّنيا"، وهي المناطق الخضراء، "إلى منابت الشّيح"، أي حيث ينبت الشّوك، "ومهافي الرّيح"، أي المواضع التي تهبّ فيها الرّياح، "ونكد المعاش"، أي شدّته وعسرته، ونحن نعرف كيف كان العرب يعيشون في شظفٍ من العيش، "فتركوهم عالةً" على غيرهم، "مساكين إخوان دَبَر"، الدّبر هو القُرحة الّتي تكون في ظهر الدّابّة، "ووبر"، وهو شعر الجمال، أي تركوهم رُعاةً، ليس عندهم من وسائل الإنتاج ما يطوّرون به حالتهم الاقتصاديّة إلى حالٍ أفضل.
"أذلّ الأمم داراً"، لأنَّهم لا يملكون في هذه الدّار ما يحقِّق لهم العزّة والكرامة، من خلالِ ما يملكون من قوّة، "وأجدبهم قراراً"، ليس لهم قرار في أرضهم يمكن أن يحقِّق لهم النّموّ والخصب.
"لا يأوون إلى جناح دعوةٍ يعتصمون بها"، أي لم تكن لهم قضيَّة، وافتقروا إلى أدنى المقوّمات الفكريَّة والعلميّة، فلم يكن لديهم خبرات منفتحة على أسرار الكون والواقع، وليس لهم دعوة إلى الحقّ، بحيث يأوون إليها ويعتصمون بها لنصرة الإنسان الَّذي يدعو إلى الحقّ، "ولا إلى ظلِّ أُلفةٍ يعتمدون على عزّها"، فهم لا يعيشون هذه الألفة الرّوحيّة الّتي تفتح قلب إنسانٍ على قلب الإنسان الآخر، وتدفع هذا الإنسان إلى أن يعاون الإنسان الآخر، وأن يساعده، وأن يتواصل معه، "فالأحوال مضطربة"، ليست مستقيمة، "والأيدي مختلفة"، فكلّ يدٍ تتحرّك مستقلّةً عن اليد الأخرى حتى في مواقع التحدّي.
"والكثرة متفرّقة"، فالكثرة الّتي تنطلق من أعدادٍ ضخمة، لا تجتمع في مركز تحصل من خلاله على قاعدة للقوّة الكُبرى، "في بلاءٍ أزل"، والمقصود به الشدَّة، أي البلاء الشّديد، "وأطباق جهل، من بناتٍ موؤودة"، حيث كانوا يعيشون هذا الجهل عندما يئِدون بناتهم ويدفنونهنّ أحياءً، وهو ما تحدَّث عنه القرآن: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (6)، وكانوا يئدون البنات خوفاً من أن يكبرن ويأخذهن الأعداء عندما تقع الحرب، فيكون ذلك عاراً عليهم.
"وأصنامٍ معبودة"، حيث اتّجهوا إلى عبادة الأصنام الّتي يصنعونها أحجاراً أو غير أحجارٍ، "وأرحامٍ مقطوعة"، فلا يتواصلون في إطار الرّحم، بل يقطع كلّ واحدٍ منهم رحمه. "وغاراتٍ مشنونة"، الَّتي تحصل ضدَّ بعضهم البعض في حرب القبائل مع بعضها البعض.
نعمة الرَّسول(ص) والرِّسالة
هكذا كانوا، ولكن كيف تبدَّلت المسألة من هذا الواقع السّلبيّ إلى واقع الإيجاب في الحياة العربيَّة؟
"فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم"، هل كان من خلال إدراكهم للقيم الَّتي يحملونها، أم أنَّ هناك وضعاً جديداً ووحياً فريداً أنزله الله على تلك المنطقة؟ "حين بعث إليهم رسولاً، فعقد بملَّته طاعتهم"، فدعاهم إلى الله، وإلى طاعته، وإلى ما يرفع مستواهم الرّوحيّ والعقليّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، "وجمع على دعوته أُلفتهم"، أي جعلهم متآلفين من خلال التزامهم بخطِّ الدَّعوة، وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}.(7) فقد انطلقت حملة التّأليف بين القلوب من خلالِ دعوة النَّبيّ(ص)، وذلك عندما بعث الله رسوله، ودعاهم إلى طاعة الله، ورفع مستواهم العقليّ والروحيّ والفكريّ والاجتماعيّ.
"كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها"، تلك النِّعمة الّتي أفاضها الله عليهم من خلال رسوله في رسالته، وحقَّق لهم بها الكرامة في الواقع الَّذي يعيشون فيه بين الأمم. "وأسالت لهم جداول نعيمها"، أي استطاعت أن تجعل النّعيم الَّذي بدأوا يتقلّبون فيه كالجداول الَّتي تسقي النّاس وترويهم من الظّمأ، "والتفَّت الملَّة بهم في عوائد بركتها"، أي جمعت هذه الملل ملّة واحدة، وهي ملَّة الإسلام، وجعلتهم جميعاً في بركاتها، كما يقال التفّ الحبل بالحطب إذا جمعه. "فأصبحوا في نعمتها غرقين"؛ نعمة هذه الدَّعوة، وهذه الملّة، ونعمة هذا الدّين، بحيث استولت على كلِّ حياتهم، "وعن خُضرة عيشها فكهين"، أي راضين، طيّبة نفوسهم؛ "قد تربّعت الأمور بهم"، تربَّعت أي أقامت، لأنَّ الإنسان حين يتربَّع، فإنّه يشعر بالاستقرار، "في ظلّ سلطان قاهر"، أصبحوا أصحاب قوَّةٍ وسلطة، "وآوتهم الحال إلى كنف عزٍّ غالب"، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (8)، وأصبحوا عزيزين بين الأمم بعد أن كانت الذلَّة تحيط بهم، "وتعطَّفت الأمور عليهم في ذرى ملكٍ ثابت"، أي ملك الإسلام، وقد امتدَّت الحضارة الإسلاميّة إلى العالم حتى وصلت إلى حدود الهند وفرنسا والصّين، وانتشرت الدَّعوة الإسلاميَّة في العالم كلِّه بطريقةٍ وبأخرى.
"فهم حكَّامٌ على العالمين، وملوكٌ في أطراف الأرضين، يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم"، ممّن كانوا يخضعون لهم، "ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم"، لأنَّ سُلطانهم جعلهم في موقع القوَّة الَّتي يستطيعون من خلالها أن يطبّقوا أحكامه على النّاس، في الوقت الَّذي كان من سبقهم يطبِّق أحكامه عليهم، لأنّهم كانوا يمثِّلون السّلطة دونهم، "لا تُغمَز لهم قناة"، القناة عبارة عن الرّمح، وغمز الرّمح هو جسُّه باليد، لينظر هل يحتاج إلى التقويم والتَّعديل فيفعل بها ذلك، وهو كناية عن أنَّ أحداً لا يستطيع أن يغلبهم أو يكسر شوكتهم، "ولا تقرع لهم صفاة"، والمقصود الحجر الصَّلد، وقرعها صدمها لتكسر.
نتائج الابتعاد عن الإسلام
وبعد أن يعطي الإمام(ع) هذه الفكرة، وكيف كان العرب قبل الإسلام، وما صاروا إليه في الإسلام، يتوجَّه إلى المجتمع الّذي كان يعاني منه الكثير: "ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطَّاعة"، فأصبحتم في حركة التمرّد، "وثلمتم حصن الله المضروب عليكم"، وهو حصن الإسلام وحصن الوحدة وحصن الاستقامة، "بأحكام الجاهليّة"، حيث رجعتم إلى جاهليّاتكم من خلال عصبيّاتكم الَّتي سيطرت عليكم، فأعادتكم إلى هذا التمزّق، لأنّكم تركتم حبل الله الَّذي أراد الله لكم أن تعتصموا به لتحصلوا على النّتائج الكبرى في العزّة والكرامة والنّعمة التي ينعمها الله عليكم.
"فإنَّ الله سبحانه قد امتنَّ على جماعة هذه الأمَّة، في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة"، فقال لرسوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (9)، "الّتي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ"، وهي نعمة الإسلام، "لا يعرف أحدٌ من المخلوقين لها قيمة، لأنَّها أرجحُ من كلّ ثمن، وأجلّ"، أيْ أعظم، "من كلِّ خطر"، لأنها تضمن سعادة الدّنيا والآخرة، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} (10).
"واعلموا أنَّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً"، فبعد أن كنتم عالمين بالإسلام، وتنفتحون على المعرفة الإسلاميَّة فيما أخذتم من العلم من رسول الله(ص) ومن كتاب الله، تركتم ذلك كلَّه، وتحوَّلتم إلى أعراب، والمراد بأعراب الجاهليَّة، هؤلاء الَّذين ينطقون بالشَّهادتين، ولكنّهم لا يتعمَّقون في العقيدة الإسلاميَّة والثقافة الإسلاميَّة، وهو قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" (11)وبعد الموالاةِ أحزاباً"، أي بعد أن كنتم تعيشون المحبَّة فيما بينكم ويوالي بعضكم بعضاً، تركتم هذه المحبَّة والمودَّة وتوزَّعتم، فكان كلّ فريقٍ منكم حزباً يواجه الطَّرف الآخر بالعداوة والبغضاء.
"ما تتعلَّقون من الإسلام إلا باسمه"، لأنَّكم لا تعيشون الإسلام فكراً ولا عملاً، ولا تعيشونه على مستوى العلاقات، "ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه"، ورسمه هو شكله وصورته، "تقولون النّار ولا العار"، أي إذا وقفتم بين نار جهنّم وعار الدّنيا، فإنّكم تفضّلون نار جهنّم على عار الدّنيا، في ما تأخذون به من الأحكام أو الأوضاع، "كأنَّكم تريدون أن تُكفئوا الإسلام على وجهه"، لأنَّ الإسلام يريد من المسلمين أن ينفتحوا عليه في كلِّ ما يتمثَّل فيه من كتاب الله وسنَّة نبيِّه، وأنتم تريدون أن تقلبوا الإسلام رأساً على عقب، "انتهاكاً لحريمه"، وحريم الإسلام هي كلّ حدوده التي أراد الله للإنسان أن لا يتعدّاها.
"ونقضاً لميثاقه الَّذي وضعه الله لكم حرماً في أرضه"، باعتبار أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليكم هذا الميثاق، وهو ميثاق الأخوَّة الدينيَّة، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (12)، فعندما تركتم ذلك، جعل الله هذا الميثاق حرماً في أرضه، لأنّه يحرم دم أحدكم على الآخر، ومال أحدكم على الآخر، وعرض أحدكم على الآخر، "وأمناً بين خلقه"، لأنَّ "المسلم من سـلم النّاس من يده ولسانه" (13)، ولأنَّ "المؤمن من ائتمنه النّاس على أموالهم وأنفسهم" (14).
"وإنّكم إذا لجأتم إلى غيره"، أي إذا تركتم الإسلام إلى غيره من الملل والنّحل، "حاربكم أهل الكفر"، وعندما يحاربونكم وأنتم تعيشون كلَّ هذا الواقع الممزَّق الّذي يواجه فيه المسلم المسلم الآخر بشكلٍ معادٍ، "ثم لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم، إلا المقارعة بالسَّيف حتَّى يحكم الله بينكم"، لأنَّ الهيبة تسقط من جانبكم، والبركة تُنـزع من بين أظهركم.
الانقسام محنة الحاضر
هذا ما تحدَّث به أمير المؤمنين(ع). ولو درسنا كلَّ ما عرضه وتناوله، لرأينا أنَّ الواقع الَّذي نعيش فيه الآن يشبه ذاك الواقع، فنحن نلاحظ أنَّ التمزّق بين المسلمين الّذي جعلهم دولاً مختلفة، وشعوباً متباغضة، وفرقاً متناحرة، وأحزاباً مختلفة، أسقط كلَّ قوّتهم وكلّ كرامتهم وعزتهم، وأصبح الغرب يسيطر عليهم ويصادر كلّ أوضاعهم، مستفيداً مما لديه من وسائل وقوّة.
المسلمون ـ اليوم ـ يعدّون ما يقارب المليار والنّصف مليار من الأشخاص، ولكنَّهم كما قال رسول الله(ص) في كلمته المعروفة: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". قيل: ومن قلّة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غثاءٌ كغثاءِ السَّيل" (15)، كما هو الزّبد الَّذي يكون فوق السَّيل لا غنى فيه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(16).
وهكذا رأينا كيف أنَّ الغربَ بكلّ عدوانه وطغيانه واستكباره، أصبح يسيطر على الواقع الإسلامي كلِّه، ويصادر ثرواته، ويجعل سياسته على هامش سياسته وأمنه. والطامّة الكبرى، أنَّ اليهود الذين كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}(17)توحَّدوا على المسلمين، واستطاعوا أن يسيطروا على فلسطين كلّها، وأن يهدِّدوا العالم العربيّ والإسلاميّ من خلال تحالفهم الاستراتيجيّ مع أميركا ومع الغرب كلّه، حتى لم يستطع أغلب العالم العربيّ في دوله أن يقف في مواجهتهم، وأن يحرِّر أرض فلسطين من طغيانهم ومن احتلالهم.
وهكذا نجد أيضاً في الواقع الإسلامي، كيف أنَّ الغرب بدأ يحتلّ البلاد الإسلاميّة تحت أكثر من عنوان، وتحت أكثر من حجَّة، وهذا ما تمثَّل في احتلال العراق وأفغانستان. وهكذا يتمثّل في الضّغط المباشر وغير المباشر على كلّ العالم الإسلاميّ وكلّ الـعالم العربيّ.
ونحن نلاحظ أنَّ هناك منظّمةً للمؤتمر الإسلاميّ تشمل الدّول الإسلاميَّة كـلَّها، ولكنَّها لا تملك أمرها، ولا تملك أن تحقِّق أيّة قوّةٍ في ذلك، لأنّهم تركوا الخطَّ الإسلاميَّ المتمثِّل بالوحدة الإسلاميَّة التي تجمع المسلمين، والتي إن أخذوا بها، حصلوا على القوّة وعاشوا بعزّة وكرامة، واستعادوا من خلالها قيادة الإسلام للعالم.
وإذا كان الإمام عليّ(ع) قد تحدّث عن العصبيَّة، في ما أشرنا إليه سابقاً، فإنَّ ما نحن فيه من هذا الحديث هو تفصيل لما تقدَّم، لأنّ من أهمّ أسباب هذه الفرقة والتمزّق، العصبيَّة البغيضة الّتي تأخذ بالمجتمع أحزاباً وفرقاً، وتجعله يسقط متهاوياً أمام هذه المحنة.
تلك هي المشكلة الّتي نعيشها، وعلينا أن ننفتـح على هذه الدّروس الّتي طرحها أمير المؤمنين(ع)، فلعلّنا نصل إلى المواقع التي يريدنا الله أن نصل إليها في الحريَّة والعزّة والكرامة
الهوامش :
(1)يوسف: 50.
(2)المؤمنون: 53.
(3)الرعد: 11.
(4)الأنفال: 53.
(5)الروم: 41.
(6) التكوير: 8، 9.
(7)آل عمران: 103.
(8)المنافقون: 8.
(9)الأنفال: 63.
(10)الأنفال: 24
(11)الحجرات: 14.
(12)الحجرات: 10.
(13) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 51.
(14)المصدر نفسه، ج 72، ص 51.
(15) سنن أبي داود، ابن أشعث السجستاني، ج 2، ص 313.
(16)الرّعد: 17.
(17)الحشر: 14.
المصدر: موقع بينات